قال القدماء: «الكفر ملة واحدة»، وعلى منوالهم ننسج، ونقول: «والاستبداد أيضاً ملة واحدة»، مهما اختلف دين المستبد أو لونه أو وطنه أو أصله، وقبل ما يزيد على مائة عام حدثنا المفكر العربى -خالد الذكر- عبدالرحمن الكواكبى عن «طبائع الاستبداد» وصفات المستبدين، ورغم أن دُرة الكواكبى صدرت فى 1902 والأمة ما زالت تحت وطأة «الاستبداد التركى» إلا أنها تبدو وكأنها كتبت لنا، وتتحدث عن مستبدين يعيشون بيننا ويمارسون الاستبداد علينا. قد تختلف أسماء المستبدين وعناوينهم، لكنهم يصدرون عن طبع واحد، ويفكرون بطريقة واحدة، ويستخدمون الذرائع ذاتها، ويخلعون على أنفسهم الصفات نفسها، فهم «مختارون» و«أنقياء» «وفوق الجميع» «وخلفاء الله فى الأرض» «ومنزهون عن الحساب والعقاب ومحصنون بالدساتير» عن السؤال والمراجعة، وهم الدعاة والقضاة، وسواء كان المستبد موسولينى أو هتلر أو فرانكو أو محمد مرسى، وسواء أكانت جماعته أو حزبه فاشية أو نازية أو إخوانية، فإن الاستبداد ملة واحدة، لا تختلف السياسات والممارسات ولا فرق فى الرايات والإشارات والشعارات. فى توقيت يكاد يكون واحداً، عشرينات القرن العشرين، ظهرت ثلاث «جماعات - حركات» جمعت بينها وبين مؤسسيها «طبائع الاستبداد». وهذه «الجماعات - الحركات» هى حزب العمال الألمانى الذى ظهر فى عام 1920 وأصبح فيما بعد الحزب الوطنى الاشتراكى أو الحزب النازى الذى صعد بهتلر إلى مقعد المستشارية الألمانية فى عام 1933 واتخذ الصليب المعقوف شعاراً رسمياً له، والجماعة الثانية هى «الحزب الفاشى» الذى أسسه موسولينى ووصل به إلى سدة الحكم فى عام 1922، والنازية والفاشية مصطلحان يستخدمان خارج سياق النشأة التاريخية لهما، ويطلقان بالتبادل على كل من تبنى أفكاراً استبدادية أو مخالفة للأيديولوجيات الليبرالية، أو مؤسساتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أما الجماعة الثالثة فهى مصرية المنبت والمنشأ، فقد ظهرت كجمعية دينية فى مدينة الإسماعيلية فى عام 1928 على يد معلم ابتدائى يدعى حسن البنا، وهى جمعية الإخوان المسلمين، ورغم نشأتها الدينية، فإنها سرعان ما صارت «رقماً» سياسياً مثيراً للجدل بسبب تحالفاتها وخصوماتها وتنقلاتها المتناقضة بين ألوان الطيف السياسى وسهولة توظيفها واستخدامها من قبل أطراف معادية للحركة الوطنية المصرية كالإنجليز والملك وأحزاب الأقلية، بل وبسبب نزعتها العسكرية السرية، وتنظيمها العسكرى «الخاص» الذى مارس الاغتيالات والتصفيات الجسدية على نفس شاكلة الجماعتين الأخريين «النازية» و«الفاشية» اللتين تلوث تاريخهما -كما الإخوان- بدماء الخصوم السياسيين، ويا للمفارقة التاريخية كانت الجماعتان ترددان على لسان زعمائهما، آخر الكلمات التى نطق بها الرئيس المصرى المعزول «إما أن نحكمكم أو نقتلكم»! وهكذا جمع بين «الفاشيات» الثلاث «الإيمان بشرعية الدم»، كان موسولينى وهتلر لا يؤمنان بشرعية الشعب ويريانها غير كافية. يقول موسولينى: «إرادة الشعب ليست الوسيلة للحكم، إنما الوسيلة هى القوة وهى التى تفرض القانون»، والفاشيون -باختلاف مشاربهم وألوانهم- لديهم «أبواق» سرعان ما تخترق بسهام دينية أو وطنية نافذة قلوب العامة والبسطاء بما تبذله من وعود، وما تشيعه بينهم من خوف من «الآخر»، فيكسب الحزب الفاشى تأييداً شعبياً رخيصاً، ونتيجة لذلك قد يقفز الفاشيون على مركب السلطة عن طريق انتخابات سلمية، كما فعل الفاشيون فى إيطاليا بقيادة موسولينى فى عام 1922، وفى ألمانيا بقيادة هتلر فى 1933، وأخيراً فى مصر بقيادة الإخوان المسلمين فى 2012. وفى التجارب الثلاث، كان خروجهم من السلطة «خلع ضرس» إما بهزيمة عسكرية فى حرب عالمية ضروس أكلت الأخضر واليابس فى إيطاليا (1943)، وفى ألمانيا (1945) وانتهت بانتحار الفوهرر أو بثورة شعبية عارمة قوامها ثلاثون مليوناً من المصريين أسقطت فى 30 يونيو 2013 نظاماً فاشياً دينياً كان يرتب للبقاء خمسمائة سنة، نهايات متشابهة مكررة لا يستفيد «اللاحق» منها من دروس «السابق». فى الفاشيات الثلاث، كان للسلطة التنفيذية هيمنة كبيرة على السلطتين الأخريين وخصوصاً السلطة القضائية، بل ومحاولة ترويض الأخيرة لصالح الأولى، هل تذكر «الإعلان الدستورى» سيئ السمعة الذى أصدره الرئيس المعزول فى نوفمبر 2012 ليحصن السلطة التنفيذية وقراراتها وقوانينها، بعد أن آلت إليها -بحل البرلمان- سلطة التشريع، من أى طعن أو نقض أو إبرام، بل ويعتدى على سلطة القضاء وينتهك قدسيتها وجلالها. وما إن يستولى «الحزب الفاشى» على زمام السلطة، فإن أعضاءه يتسلمون الوظائف التنفيذية والقضائية والتشريعية، وفى أغلب الأحيان يرأس السلطة التنفيذية شخص واحد ذو نزعة استبدادية، ولا يسمح الفاشيون بمعارضة لسياساتهم ولا بقيام أحزاب أخرى، وتسمح الفاشية، بل وتشجع النشاط الاقتصادى الحر، ما دام يخدم أهداف الحكومة الفاشية، حدث هذا فى إيطاليا وفى ألمانيا، وفى مصر كان رجال الأعمال الإخوان؛ خيرت الشاطر وحسن مالك وعصام الحداد، وغيرهم هم القاعدة الاجتماعية لنظام الحكم الجديد، وصانعو سياساته الداخلية والخارجية. ويجمع هذه الفاشيات أيضاً كراهية الأقليات واضطهادها ونزوعها إلى التطهير العرقى، ويعتبر الفاشيون كل الشعوب والقوميات والأديان الأخرى أدنى منهم، وقد كان اليهود فى ألمانيا -وفى إيطاليا بدرجة أقل- هدفاً يتسابق النازيون على اصطياده والزج بهم فى أفران الغاز، جنباً إلى جنب مع الغجر والمعاقين وذوى الاحتياجات الخاصة، ما حاجتهم لهؤلاء الضعفاء المقعدين؟! وقد بدأت أول موجة من معاداة السامية فى عام 1933 عندما هاجم النازيون مخازن تابعة لليهود ودعوا إلى مقاطعة الأنشطة التجارية اليهودية تماماً، كما طالب الإخوان فى نداءاتهم المقدسة بمقاطعة أشقائنا من التجار المسيحيين لا نبيع لهم ولا نبتاع منهم، وتحت وطأة «الترانسفير» أو «التهجير القسرى» استعدت العديد من العائلات اليهودية للمغادرة، وهو الهاجس الذى راود أيضاً أشقاءنا الأقباط. فى ظل الفاشيات، تقيد الحريات الشخصية تقييداً شديداً، وتهيمن الحكومة على الصحف ووسائل الإعلام الأخرى وتبث الدعاية للترويج لسياساتها، وتمارس رقابة صارمة على المطبوعات لقمع الآراء المناوئة، وتعادى الثقافة والمثقفين، وعندما تقرع آذان الفاشيين كلمة الثقافة والمثقفين، تتحسس -كما قال جوبلز، وزير الدعاية النازى فى عهد هتلر- موضع مسدسها!. وقد تؤدى المعارضة إلى السجن والتعذيب والموت (تذكر مرة أخرى ما جرى لليهود والغجر والشيوعيين!). وكما أن للفاشيات شاراتها وشعاراتها، فإن «صليب النازية المعقوف» الذى كان ظهوره فى أى مكان فى ألمانيا مقدمة تسبق موجات العنف والترويع التى يشنها الشباب النازيون، تماماً مثل صليب «رابعة» المعقوف، الذى صار رمزاً للفاشية الدينية فى أنكر صورها؛ ليد شوهاء رباعية الأصابع، والخامس معقوف!