ألتمس العذر لكل هؤلاء الذين أذهلتهم المفاجأة، لقد تعرضت شخصياً لمثل هذه المفاجأة عندما قرأت كتاب الأستاذ عبدالعظيم حماد (الوحى الأمريكى) وهو الكتاب الذى أشرت إليه فى المقالين السابقين. صحيح أن إدارة الإخوان حرة فى أن تتخذ لنفسها طريقا يمر من خلال أمريكا وإسرائيل ولكن الدم الذى كان يسرى فى عروقنا والعقل الذى نحمله فى رؤوسنا كانا يعتبران أن هذه اللقاءات إنما هى خيانة لقضية عقائدية إسلامية، وهكذا كان يقول الأستاذ عمر التلمسانى (رحمة الله عليه) دائما. لذلك احتجت أنا وأمثالى إلى فترة من الزمن لكى نصدق ذلك الاندماج الذى حدث بين الإدارة الإخوانية والصهاينة على مستوى العالم. لم يكن من السهل علينا أن نصدق وجود أكثر من عشرين لقاءً بين جمعيات إسلامية فى أمريكا وجمعيات صهيونية، وكان أقساها على نفوسنا ذلك الاتفاق الذى وقع فى 19 ديسمبر عام 2007 بين الجمعية الإسلامية بشمال أمريكا واتحاد اليهود الإصلاحى وما أصدرته كونداليزا رايس من قرارات بعد ذلك بعامين تفضح بها الاتفاق الكامل بين الإخوان المسلمين والدبلوماسيين الأمريكيين.. لقد كان كتاب «الوحى الأمريكى» من أوضح ما قرأت سطوره فى حياتى ذلك أنه نجح فى الربط بين قرارات كونداليزا رايس بفتح الأبواب على مصراعيها للتعاون التام بين الإدارة الأمريكية والإخوان المسلمين والذى صدر فى 2007. صدقونى أيها السادة القراء فأنا أعذر كل من لا يصدق لأن الكثير من الحقائق يصعب تصديقها من الوهلة الأولى ومع ذلك فقد تم الاختصار الشديد فى المقالين السابقين لأنه كان من الصعب أن نجمع أكثر من ثلاثين لقاءً سرياً وعلنياً فى مثل هذه المقالات الموجزة ولعل التسلسل المنطقى هو الذى جعلنا نرصد لقاءات الأمريكان بالإدارة الإخوانية عقب قيام ثورة 25 يناير 2011 وبالرغم من أنها لقاءات كثيرة فإن أهمها على الإطلاق ذلك الذى تم بين الدكتور مرسى والدكتور عصام العريان من جهة وبين وفد أمريكى على مستوى عالٍ ونشرت وكالة «رويترز» عنوانا لهذا اللقاء فحواه أن «مرسى والعريان قد علما بكل الشروط الأمريكية»، وكان ذلك بالطبع قبل أن يتم إعلان نتيجة نجاح مرسى.. وفى 9 نوفمبر عام 2011 وقبل الانتخابات البرلمانية أعلنت السيدة هيلارى كلينتون أن الولاياتالمتحدة سوف تتعامل مع الإخوان والقيادات الإسلامية.. ولا يفوتنا أيضاً أن نشير إلى مؤسسة «راند» وهى من أهم مؤسسات البحوث الأمريكية فى علم السياسة والاستراتيجيات وهى المؤسسة الأهم التى قامت بعقد الزواج غير الشرعى بين الإدارة الإخوانية والإدارة الأمريكية، ولكى ندلل على ذلك نذكر ما قامت به هذه المؤسسة من جهد فى التقريب بين الإدارتين الأمريكية والإخوانية وأنها طمأنت الإدارة الأمريكية بأن الجماعة ليست منظمة عالمية وأن كل فرع منها له استقلاله بالكامل فى اختيار سياساته وأن الجماعة لا يمكنها أن تسيطر على مصر لأن نسبة التأييد للإخوان لا تزيد على 15 بالمائة، حتى انتهت تلك المنظمة إلى نجاح لم يسبقه نجاح بالنسبة للإدارة الأمريكية ولإسرائيل فى ذلك الوقت ففى يوم 2 مارس 2012 أعلن أحد المسئولين الأمريكان بعد لقائه مع عدد من قيادات الإخوان أنه حصل على التأكيد من الإدارة الإخوانية بأنهم لن يمسوا اتفاقية السلام وقد طلبت الجماعة رسميا افتتاح مكتب تمثيل رسمى لها فى واشنطن ثم توالت اللقاءات العالمية بين الدكتور محمد مرسى والإدارة الأمريكية تحت ظلال الاعترافات المتبادلة والتى كان أولها وأهمها هو الاعتراف بإسرائيل فكان منها مثلا لقاء 6 أكتوبر عام 2011 بين الدكتور «سعد الكتاتنى» و«آمى ديستيفانو» و«بريم كومار» وهذا الأخير كان رئيسا لقسم مصر فى الأمن القومى فى أمريكا، وفى 15 نوفمبر 2011 و10 ديسمبر 2011 و2 يناير 2012 و11 يناير 2012 و12 يناير 2012. والآن نأتى إلى الحلقة الأخيرة فى ظل إطار الاختصار الذى لن يغفره لنا إلا قراءة تفاصيل ما كتبه الأستاذ «عبدالعظيم حماد» حتى فى مقالاته الشخصية، وإذا ما جئنا إلى الختام فهو شهر أكتوبر الذى شكل أكبر علاقة خاصة وسرية بين الرئيس مرسى والرئيس أوباما ففى هذا الشهر شنت إسرائيل حملتها الجوية على غزة التى سمتها «عمود السحاب» وفى خلال أسبوع تقريبا انتهت هذه الغزوة باتفاق سرى أوقف إطلاق النار دون أى اجتياح برى لغزة وفى يوم 14 أكتوبر طالب المرشد العام الدكتور «محمد بديع» العرب جميعاً بوقف التعامل مع إسرائيل لأنها لا تفهم غير لغة القوة ويدعو إلى الجهاد لتحرير فلسطين والأقصى وكاد الناس أن يصدقوا ذلك إلا أن الغبار سرعان ما انقشع إذ تم عقد أكبر لقاء بين الدكتور مرسى وبين أوباما لتجديد هدنة الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» بين إسرائيل وحماس وتجديد الصداقة والمعاهدات المصرية الإسرائيلية وقد روت صحيفة «نيويورك تايمز» فى تقرير تفصيلى لها ما حدث فى هذا اللقاء السرى وفى الحقيقة فإن مرسى أيضاً لم ينكره بل يفتخر به فقد كان الرئيس الأمريكى يشارك فى قمة رابطة «الآسيان» فى كمبوديا وفجأة انسحب أوباما من الجلسة وصعد إلى جناحه فى الفندق وتحدث إلى الرئيس المصرى «مرسى» وقتئذ لمدة قاربت نصف الساعة وكانت هذه المحادثة هى الثانية خلال 24 ساعة والسادسة خلال سبعة أيام وهى فترة اندلاع القتال فى غزة وبعد الحديث أعلن الرئيس الأمريكى إنهاء الغزوة وأن علاقته ب«مرسى» أصبحت علاقة عمل، خاصة أنه -أى «مرسى»- سيدفع عملية السلام، وأن أوباما تأثر ببراجماتية الرئيس المصرى، وأن المفاجأة لدى أوباما أن مرسى لديه القليل من الأيديولوجية والكثير من البراجماتية، وأضاف مساعدو أوباما ما معناه أنهم لا يهتمون بلغة مرسى فى العلن ما دام مسلكه فى السر يتفق مع الأهداف الأمريكية، وهنا تظهر الكارثة التى سنختتم بها تلك السلسلة من المقالات وهى التقارير التى أعلنت من إسرائيل نفسها فقد كتب «روبرت فليشر» مدير المشروع العربى الإسرائيلى و«أوفير سالسبرج» محلل شئون الشرق الأوسط فى صحيفة «لوموند ديبلوماتيك» ما يشير إلى أن هذه الغزوة الإسرائيلية تمت بتعاون ضمنى مع السلطات الإسلامية الجديدة فى المنطقة ففى نهاية المطاف -والكلام للتقرير الإسرائيلى- كانت مصر بقيادة الإخوان هى من دفع باتجاه وقف إطلاق النار باتفاق ذى بنود أقل تفصيلا مما كانت حماس تطالب به من قبل بل إن هذه الغزوة كشفت عن تعاون مصرى مع الولاياتالمتحدة لتأمين وقف إطلاق النار ومنع الأعمال العدائية ضد إسرائيل ثم قامت قطر أيضاً بدور وكذلك تركيا التى اكتفت بالإدانة البلاغية، إلا أننا لن نخوض فى هذا الدور حيث إن له موضعاً آخر.. وعند هذه الكارثة ينبغى أن نتوقف ونعتذر إلى الذين لا يصدقون ما نقول؛ ذلك أننا لا نملك أكثر من القدرة على رواية الوقائع ولكن ربما لو راجعتم ما راجعناه من وثائق وقرأتم ما قرأناه من نصوص الاتفاقيات وما ورد من وثائق فى كتاب «الوحى الأمريكى» للأستاذ عبدالعظيم حماد، فإن السادة القراء ربما يصدقون إلا أنهم حتى عندما يصدقون فإنهم أيضاً سيصدمون.