كنت قد أنهيت سلسلة مقالات «حرب الغاز»، تناولت فى الأول ساحة الحرب وأطرافها، أوضحت فى الثانى الاستعدادات الميدانية لكل طرف، واختتمتها بسيناريوهات الصدام المحتمل.. ولأنه موضوع الساعة، فقد حقق تجاوباً واسعاً، وطلب الكثيرون رصداً لمواقف القوى الدولية والإقليمية حال الصدام. الثروات من الضخامة بما يغرى بالحرب، حقل «ظهر» المصرى باحتياطى 32 تريليون قدم3، «ليفياثان» الإسرائيلى 20 تريليوناً، وشقيقه «تمار» 10 تريليونات، «أفروديت» القبرصى 7 تريليونات، «غاز قبرص أ» 7 تريليونات، «كاليسبو» الجديد يقترب من «ظهر»، بخلاف الثروات الكامنة أمام سواحل طرطوس السورية، وبالمنطقة الاقتصادية للبنان.. القوى الدولية الرئيسية المعنية بالصراع أمريكاوروسيا، والإقليمية إيطاليا واليونان، وأطراف الأزمة مصر وتركيا وإسرائيل وقبرصولبنانوسوريا وفلسطين. أمريكا لا تزال القوة الرئيسية الفاعلة بالمنطقة.. قطبا الصراع فى حرب الغاز، حليفاها ال«مارقان»، مصر وتركيا، التعامل الأمثل معهما من وجهة نظرها «سياسة التحريض» التى أشعلت حرب الثمانى سنوات بين إيرانوالعراق فدمرا آلاتهما العسكرية، قبل أن تورط «أبريل جلاسبى»، سفيرتهم ببغداد، صدام حسين فى المستنقع الكويتى، لتقضى عليه.. الحرب هنا لها بعد آخر، يوقع أضراراً جسيمة بالشركات الأمريكية العاملة بالمنطقة، خاصة نوبل إنيرجى، التى تعمل بإسرائيل، وإكسون موبيل، وغيرهما مما تستحوذ أمريكا على حصة فيها، الحرب تربك عمليات التنقيب والاستخراج، وتُحدث أزمة فى سوق الغاز الدولى، المواجهة العسكرية بين تركيا واليونان، عضوى الناتو، تفكك التحالف الغربى فى مواجهة روسيا، وقد تطول شرارة الحرب حليفتها إسرائيل.. كل الاعتبارات تفرض على أمريكا التدخل السياسى، وسرعة احتواء الأزمة، على نحو ما تفعل حالياً بين لبنان وإسرائيل. روسيا حليفة لتركيا، ضمن المحور الثلاثى الذى يجمعهما بإيران، دور مصر فى استخراج ونقل وتسييل وتصدير الغاز للسوق الأوروبى سيكون خصماً من حصة روسيا «40%»، مما يسمح للقارة العجوز بالتجاوب مع المطالب الأمريكية بتشديد المقاطعة والحصار على روسيا.. الغاز بالنسبة لموسكو يمثل نصف عائدات الميزانية، و70% من الصادرات، لذلك أى مساس بحصتها يعتبر قضية أمن قومى، مما يبرر خوضها لثلاث حروب فى جورجيا وأوكرانيا وسوريا، فما بالك وتعاقدات «روس نفط» مع أوروبا تنتهى بين 2021/2035، واحتمالات التجديد غامضة، بعد ظهور المنتجين الجدد. روسيا أخطأت عندما قطعت إمدادات الغاز عن أوروبا لمدة أسبوعين أثناء الأزمة الأوكرانية، فى شتاءٍ قارص، مما أثار غضب القارة عليها، موسكو لا تريد ارتكاب أخطاء جديدة، بدعم حليف أرعن، أسقط إحدى مقاتلاتها منذ عامين، وأهان سلاحها وعسكريتها، ثم اغتال سفيرها.. مصر الطرف الآخر فى المواجهة، وهى رغم ترددها، تظل حليفاً محتملاً، تقتنى التكنولوجيا النووية والسلاح الروسى، وعادت لدورها الإقليمى، خاصة فى ليبيا وسوريا على نحو لا يمكن تجاهله.. التحالف الروسى مع تركيا إذاً مجرد محاولة اختراق لحلف الناتو، ولا ينبغى أن تتجاوز ذلك. روسيا تواجه متغيرات السوق بتعزيز شراكتها فى غاز المتوسط، أنشأت قاعدتها العسكرية فى طرطوس، التى يقابلها واحد من أكبر الاحتياطات، التى ستحول سوريا لثالث أكبر منتج للغاز فى العالم.. «روس نفط» باعت 20% من أسهمها لشركة «الغاز القطرية» لتتمكن من شراء 30% من حصة «إينى» الإيطالية فى حقل «ظهر».. وهناك محاولات روسية لشراء حقلى «كاريش» و«تانين» الإسرائيليين المحاذيين للحدود اللبنانيّة باحتياطى 6 تريليونات قدم3.. بخلاف الاتفاقات مع إقليم كردستان العراق للتنقيب والخدمات اللوجيستية وتطوير البنية التحتية وتجارة موارد الطاقة.. استراتيجية متعددة المحاور تدعم وجود روسيا بسوق الطاقة العالمى، دون التورط فى حرب الغاز. إيطاليا أهم القوى الإقليمية المعنية بحرب الغاز، «إينى» اكتشفت «ظهر» المصرى، وبمشاركة توتال الفرنسية تكتشف «كاليسبو» القبرصى، وتحظى بحصص فيهما، ستساعد الاقتصاد الإيطالى لزيادة معدلات نموه، إضافة إلى أن روما لم تفقد الأمل فى أن يغرى التوسع فى الاكتشافات بمد خط أنابيب عبر قبرص واليونان ليعبر أراضيها متجهاً لأوروبا، لتلبية استهلاكها المحلى، وتصدير الباقى.. مصالح إيطاليا مع مصر تفوق مثيلتها مع تركيا، مما يفسر العديد من محاولات الاستهداف والوقيعة، أبرزها تفجير القنصلية الإيطالية بالقاهرة، و«تلفيقات جريمة ريجينى».. تعاطف روما مع مصر يفرضه تقديرها للدور الذى تقوم به القاهرة لكبح جماح الهجرة غير المنظمة، مقابل «الابتزاز التركى» وتهديد «أردوغان» الدائم بإغراق أوروبا باللاجئين، وكذا دور مصر الفاعل لتحقيق الاستقرار فى ليبيا، مما يحد من الهجرة، مقابل دعم تركيا للإخوان والتنظيمات المسلحة، التى تحفز عليها، لذلك لم يكن مفاجئاً أن تدفع إيطاليا فرقاطة عسكرية، لحماية الحفار الإيطالى The Saipem 12000 حتى يتمكن من استكمال مهمته جنوب شرق قبرص، فى تحذير بالغ الوضوح لتركيا.
تركيا ستجد نفسها حال المواجهة فى عزلة كاملة عن أى دعم دولى أو إقليمى، باستثناء حليفتيها؛ إيرانوقطر.. توسط أمريكا لتسوية الخلاف بين لبنان وإسرائيل حول المناطق المتنازع عليها يستهدف منع طهران من استغلال الموقف، بعد أن دفعت حسن نصر الله للتهديد باستهداف منصات الغاز الإسرائيلية.. إيران من أكثر الدول المتضررة من اكتشافات شرق المتوسط، خاصة أن اتفاق القاهرة وبغداد «فبراير 2017» على مد خطوط أنابيب للنفط والغاز من حقول البصرة عبر الأردن للتصدير لأوروبا قضى على مشروع إيران بمد «الأنبوب الإسلامى» عبر العراقوسورياولبنان لتغطية احتياجاتهم وتصدير الفائض.. الإنحياز القطرىلتركيا لا يرجع فقط لتضررها من تعاظم الدور المصرى فى سوق الغاز الدولى، وإنما يتعداه لكون تركيا حليفتها، التى تتمركز قواتها بقاعدة «الريان» لتؤمن نظام الحكم فى الدوحة.. ولكن كلاً من إيرانوقطر لا يقدم ولا يؤخر حال المواجهة مع تركيا، بسبب حدود قوتهما، وابتعادهما عن ميدان المعركة. السيناريوهات حالياً مفتوحة على كافة الاحتمالات، أقلها تعطل عمليات التنقيب والبحث والاكتشاف، وأوسطها توقف عمليات الاستخراج، وأخطرها الحرب.. الاحتمال الأول وقع بالفعل لقبرص، واحتمالات التصاعد مفتوحة على مصراعيها.. مواقف القوى الدولية والإقليمية إما محايدة، أو ضد تركيا، مما يسمح لمصر بتوجيه رد ساحق، على أى تحرش عسكرى، يوجه لمصالحنا الغازية بالمتوسط.. بعدها سيعيد «أردوغان» حساباته فى كامل سياساته بالمنطقة.. ولكن فلنحذر، إذا كانت التحرشات التركية موجهة فقط لقبرص أو اليونان فالدعم اللوجيستى والمعلوماتى يكفيان، لأن الطرفين فى النهاية أعضاء بحلف الناتو، وستتدخل أجهزته فى الوقت المناسب لوضع حد لأى مواجهة بينهما.. مصر لا تتخلى عن أصدقائها، لكنها لا تخوض حروباً إلا دفاعاً عن مصالح شعبها.. مصر وتركيا بينهما ملفات خلافية عديدة، الإخوان، الإرهاب، سوريا، إيران، قطر، لكن الغاز هو الخط الأحمر.. من يقترب فعليه أن يدفع ثمن اجترائه فادحاً.. وقد أعذر من أنذر.