أستطيع أن اكتب ألف انتقاد وانتقاد للتخبط المقصود وغير المقصود فى إدارة المرحلة الانتقالية منذ إجبار الرئيس السابق حسنى مبارك على التنحى، وأستطيع أن أقول فى أداء المجلس الاعلى للقوات المسلحة وحلفائه السابقين من فصائل تيار الإسلام السياسى أكثر مما قال مالك فى الخمر. لكن هذا "الهجاء" لا يحل استعصاء العقدة التى تمسك بخناق البلاد والعباد. المطلوب بالأحرى تبنى خطاب للأمل ، لا يبيع الأوهام للمصريين ولا يرش السكر فوق الموت وقبح الاستبداد - سواء كان استبداداً سياسياً أو دينياً – وإنما يتبنى نظرة مستقبلية وتفكيراً خارج الصندوق، انطلاقاً من الدروس المريرة للشهور الأربعة عشر الماضية. وليست هذه دعوة "مثالية" بل أصبحت لها أرضية موضوعية بعد أن سقطت كثير من الأوهام والخرافات والأقنعة، وثبت لجميع الأطراف - بالدليل الحى – انه من المستحيل لأى طرف اختطاف مصر، أو "التكويش" عليها، أو إقصاء الآخرين. هذا المنهج المتعالى الذى راود البعض فى تصور أنه يمكن أن يقصى الآخرين أو يهمشهم، سقط سقوطاً مدوياً وترافق مع هذا السقوط تراجع مكانة "اللاعبين" الرئيسيين. ومن كان خياله يصور له أنه "شمشون" الجبار أثبت له الواقع أنه مجرد "نمر من ورق"، ونتيجة لذلك أصبحنا إزاء "توازن ضعف" وليس "توازن قوة" بين الأطراف الأساسية. وبخاصة المجلس العسكرى ومعسكر الإسلام السياسى. وليس المعسكر الذى يضم المدافعين عن "مدنية الدولة" أفضل حالاً، إذ يعانى من آفة التشرذم المزمنة، إضافة إلى آفة النخبوية التى دفع ثمنها فى الانتخابات البرلمانية. **** القانون الحاكم لعلاقة هذه الأطراف الثلاثة هو قانون "توازن الضعف" الذى خلق فراغاً مخيفاً فى المجتمع وهو فراغ مشابه لتوازن الضعف الذى كان قائماً فى الشهور الأخيرة من حكم حسنى مبارك بين نظام عاجز عن الوفاء بواجبات ومسئوليات الحكم ومعارضة كسيحة ومدجنة ومنقسمة غير قادرة حينا وغير راغبة أحيانا فى إزاحة النظام المريض. وفى تلك السنوات الأخيرة لحكم مبارك وتوازن الضعف المشار إليه، نشأ فراغ ملأه الدين والمال السياسي. والآن ومع توازن الضعف الجديد ينشأ فراغ جديد لكن يملؤه هذه المرة طرف لم يكن فى حسبان مبارك من قبل ولا المجلس العسكرى وجماعة الإخوان من بعده هو "قوة الميدان". "قوة الميدان" هذه ليست مجرد قوة متيافيزيقية، بل هى تلك القوة الثورية التى تفجرت يوم 25 يناير 2011 وأجبرت مبارك أن يحمل عصاه ويرحل. وهى أيضاً القوة التى استعصت على الترويع والتركيع بعد ذلك وتمثل – فى التحليل النهائى- الإنجاز الأكبر والوحيد للثورة حتى الآن بكسرها حاجز الخوف وإعادة المصريين الى عالم السياسة. وعلى قاعدة هذا الاصطفاف الجديد للقوى الآفلة والصاعدة تلوح فى الأفق بوادر خطاب جديد للأمل يستدعى ترجمة سياسية فى برامج وتوجهات وتكتيكات جديدة . وللحديث بقية.