أخذ يجرى مسرعا يبحث عن شىء يحميه من المطر الهاطل بغزارة وهو يقول فى نفسه: منذ سنين لم أشهد مطرا يهطل بهذه الغزارة منذ أن كنت أنا وحبيبتى نلتقى تحت الماء لا يهمنا أن تبتل ملابسنا ولا أن يصيبنا البرد والزكام؛ فقد كنا نستمتع بأن نمشى معاً فى وسط الشارع نشاهد المارة من رجال ونساء جميعهم يبحث عمَّا يحميه من المطر. وصل عمر إلى أسفل مظلة خشبية ثم أخر ج علبة السجائر والتقط سيجارة وأشعلها وفى نفس الوقت وصلت منى لتقف أسفل المظلة بجانب عمر. أخذ يدخن سيجارته وينفخ الدخان ثم يتابعه بنظره وهو يصطدم بقطرات الماء المنهمرة. نظرت إليه منى باستغراب وتقول فى نفسها: أمعقول ما تراه عينى الآن؟ أبعد كل هذه السنوات؟ وارتسمت البسمة على شفتيها وقالت لنفسها: ما زال هو لم يتغير يستمتع بالتقاء ذرات الدخان بقطرات المطر. ما زال عمر يدخن سيجارته وهو يحدث نفسه قائلا عجبا أشعر بشىء قوى من الماضى. المطر الغزير الذى لم نعتَده منذ سنوات طويلة ورائحة عطرها تملأ أنفى، يا الله كم اشتقت إليها. انتهى عمر من تدخين السيجارة ورفع ما تبقى منها بيده ليرميها كعادته فى وسط المياه ليستمتع بتلاقى الماء مع النار، وقبل أن يرميها سمع صوتا قد ألفته أذنه من قبل ينادى عليه: عمر. نظر جانبه فوجدها وحينها لم يعد بينه وبين جذع الشجرة التى بجانبه فرق، كلاهما ثابت لا يهتز. اقتربت منه منى قائلة: لم أتوقع أبدا أن ألقاك فى هذا المكان وبعد هذا العمر. فاستفاق عمر من دهشته وابتسم ورد قائلا: أشعر وكأن الزمن قد عاد بى أكثر من عشرين عاما إلى الوراء. منى: وأنت ما زلت كما أنت تستمتع بالمطر. عمر: وكأن كل فصول الشتاء التى مرت بعد فراقنا لم تكن شتاء.. لم أشعر بمتعة المطر والنظر إليه إلا اليوم.. كنت أتساءل: لماذا؟ والآن عرفت السبب. منى: وما السبب؟ عمر: رائحة عطرك ملأت كيانى، ومع المطر الذى يشبه كثيرا مطرا عهدناه معا جعلنى أنسى الشعيرات البيضاء التى بدأت تزحف على رأسى وأقنعت نفسى أننى ما زلت شابا أقف فى انتظارك حتى تخرجى من الجامعة لنمشى معا وسط المطر. تحركت منى من مكانها وذهبت لتقف إلى الجانب الآخر من الشجرة. منى: أتذكر هذه الشجره؟ عمر: عمرها من عمر حبنا. منى: انظر ما زالت الحروف الأولى من أسمائنا منقوشة عليها. عمر: منذ عشرين عاما وأنا أمر عليها فإذا وجدت أن الحروف قد بدأت تختفى نقشتها مرة أخرى. منى: كيف حالك يا عمر؟ هل تزوجت؟ ابتسم عمر ورد قائلا: لا.. وأنت؟ منى: لقد مات زوجى وعدت مع ابنتى من أمريكا لنستقر فى مصر. انتهى المطر وبالفعل انتهى صراع يدور فى نفسيهما العاشقتين منذ سنين، تعاهدا ألا يكون هذا آخر لقاء بينهما على أن يصبحا صديقين مدى الحياة وأن تكون قصة ضياع حبهما ذكريات يحملانها فى قلبيهما لا يطلع عليها إلا رب العالمين حيث لم يتبق ممن عاصروا هذه القصة بآمالها وآلامها أحد.