الاشتباكات فى محيط قصر الاتحادية لا تنقطع، الحجارة والرصاص الحى يتهاويان من كل مكان، قتلى وجرحى يتساقطون، ملامح غائبة مضرجة بالدماء، الجميع يتخذ من الشوارع الجانبية والحواجز الحديدية والأشجار ساتراً، فى الوقت الذى يظهر شاب فى العقد الثالث من عمره، مرتدياً زياً أخضر اللون، مميزاً بخطوط فسفورية، يسير بشجاعة فى قلب الاشتباكات، غير آبه بشىء سوى الجثمان الغارق فى دمائه. يهرول الشاب مسرعا فى خطواته، حاملاً فى يمناه سريراً برتقالياً، يوم أحداث الاتحادية الأولى، عندما هجم أنصار محمد مرسى على اعتصام النشطاء والثوار المعارضين، أمام القصر الرئاسى. يقترب الشاب من الجثمان ليكشف عن وجه صاحبه فإذا به يجد أن صاحب الجثمان المسجى على الأرض هو صديقه صاحب الوجه المبتسم «الحسينى أبوضيف»، ورأسه قد شقته رصاصة غادرة، يُجهز السرير بيد مرتعشة وصدمة لا يستوعبها عقله الذى طالما برمجه، خلال 8 أعوام من العمل كمسعف فى مرفق إسعاف القاهرة، على صور القتلى والمصابين. شريط من الذكريات يأبى أن يتركه، مشهد الحسينى أبوضيف أعاد إليه مشهد الشاب «جيكا» الذى تعود على رؤيته فى الميدان، ولم يكن يتوقع لهذا الشاب المتحمس الواعد أن تكون نهايته هكذا. يحاول لملمة مشاعره وتهدئة نفسيته بكلمات حفظها عن ظهر قلب تقضى بأن المسعف لا بد أن يكون محايداً ينحى مشاعره جانباً ويُحكم عقله ما دام ارتدى زيه الأخضر. محمد عبدالمرضى، واحد من بين مئات المسعفين، الذين لم يهنأوا بحياة طبيعية منذ اندلاع ثورة 25 يناير وما تبعها من أحداث نتجت عنها اشتباكات وسقوط ضحايا ومصابين، ليعد شاهداً على أحداث سطرت تاريخ مصر ما بعد الثورة، الاشتباكات تتوالى والذاكرة تخزن صوراً ومشاهد يذهب أكثرها هباءً فيما يرفض بعضها مغادرته، يقرر التوقف عن المهنة فيتذكر أن مهنته أخلاقية أكثر من كونها طبية قائلاً: «ربنا اختارنى إنى أكون سبب فى إنقاذ واحد بيموت». يصمت لوهلة ثم يعاود كلامه: «بعد موقف الحسينى أبوضيف وجيكا قررت أسيب المهنة، مش قادر أنسى صورهم لحد دلوقتى وهما سايحين فى دمهم، تعرف يعنى إيه ناس كنت كل ما انزل الميدان أشوفهم حوليا وأكلت معاهم عيش وملح، ومرة واحدة لاقيت نفسى شايلهم على إيدى وهما ميتين؟». ويضيف الشاب الثلاثينى: «كل مرة كنت باقرر أسيب المهنة كنت بارجع واقول ماينفعش إزاى ربنا يكون جعلنى سبب فى إنقاذ حياة شخص تانى وانا أكون أنانى وأسيبها، وكنت باتشجع وانزل، بس أكتر حاجة بتضايقنى وباتأثر بيها الشباب الصغير اللى بيموت قدامك وانت مش قادر تعمل له حاجة». مواقف كثيرة تعرض لها «عبدالمرضى» خلال عمله مسعفاً كادت أن تودى بحياته، فالجرح الذى أصاب رأسه خلال نقله مجموعة من المساجين المصابين خلال ثورة 25 يناير ما زال شاهداً على واقعة الاعتداء عليه، قائلاً: «الواحد تعرض لمواقف كتير صعبة بالذات أيام الثورة اللى شهدت انعدام ثقة كبير بين الثوار والأهالى وسيارات الإسعاف بعد ضبط سيارات كانت تهرب وتنقل سلاح لوزارة الداخلية». ويعقد «عبدالمرضى» حاجبيه ويمسك برأسه قاصاً تفاصيل واقعة الاعتداء: «ساعة الثورة واقتحام السجون تم استدعائى لنقل مساجين من سجن الاستئناف، وبالفعل نقلت 5 جثث لمشرحة زينهم، بعد كده طلب منى عقيد السجن إنى أرجع تانى عشان أنقل 3 مصابين كان واحد منهم محكوم عليه بالإعدام ومتركب له أنبوبة صدرية، عميد السجن رفض إنهم يطلعوا من غير حراسة مسلحة وبالفعل ركب معايا عساكر مسلحين ولما وصلنا لمستشفى أحمد ماهر رفضت تستقبلهم لعدم وجود أى عنابر للحراسة». يستطرد «عبدالمرضى»: «رجعنا تانى على السجن وطلبنا من العميد إننا ننقل المصابين الصبح عشان يكون معانا حراسة من الجيش، رفض، وقالى لازم يتنقلوا حالياً لمستشفى القصر العينى عشان هناك عنبر للمساجين، واحنا طالعين من السجن فى طريقنا للمستشفى وقفتنا لجنة شعبية للتفتيش، ولما وجدوا شرطة وسلاح واحد من الناس ضربنى بعصاية على دماغى واتهمونى إنى باهرب مساجين، وساعتها دماغى اتفتحت وجالى شبه ارتجاج فى المخ واتحجزت فى مستشفى الدمرداش». المشاكل لا يواجهها المسعف فقط من الأهالى أو المتظاهرين سواء كانوا مؤيدين أو معارضين، بحسب كلام «عبدالمرضى»، إنما أيضاً من قوات الأمن العاملة على فض الاشتباكات فى المظاهرات، مستشهداً بأحداث المقطم عندما كان ينقل مصابين معارضين لنظام الإخوان المسلمين وأراد أحد ضباط الداخلية إلقاء القبض عليهم وهو ما تصدى له «عبدالمرضى» موجهاً كلامه للضابط: «مفيش حد يقدر يقرب من عربيتى وياخد مصاب، لما المصاب ينزل من عربية الإسعاف تقدر حضرتك تتعامل معاه». «عبدالمرضى» يرى أن المسعف الحق هو الذى يعرف حقوقه وواجبات مهنته التى يأتى على رأسها الالتزام بالحيادية وتجنب الانتماءات السياسية عند التعامل مع المصابين، وكذلك الحفاظ على أرواح المرضى وحياتهم أثناء إسعافهم، وأنه لا يحق لأى طرف أياً كان إلقاء القبض على مصاب حتى ولو كانت الشرطة، يردد كلمته للمرة الثانية: «محدش يقدر يقرب لمصاب فى عربيتى». اتهامات كثيرة يواجهها المسعفون بأنهم دائماً يخدمون النظام الحاكم أياً كانت سلطته، وهو ما جاء على لسان أنصار محمد مرسى فى اشتباكات العباسية، عندما نشرت قناة الجزيرة استغاثات من المصابين فى أحداث رمسيس تفيد بعدم وجود سيارات إسعاف، وهو ما يراه «عبدالمرضى» تضليلاً لما حدث على أرض الواقع قائلاً: «أول ما سمعنا بوقوع اشتباكات بين أنصار (مرسى) وقوات الأمن اتجهنا فوراً إلى ميدان رمسيس، وكان الإخوان وقتها عاملين مستشفى ميدانى داخل مسجد الفتح، شلت شنطة الإسعاف ودخلت أنا والدكتور ياسر بيومى، نائب رئيس مرفق إسعاف القاهرة، لإسعاف المصابين، لكن الإخوان رفضوا دخولنا». يضيف «عبدالمرضى»: «قعدنا حوالى ساعتين نحاول نقنعهم إننا مش مع حد، وكل اللى عايزينه نسعف المصابين ويفتشونا قبل ما ندخل عشان يتأكدوا إننا مش تابعين لأى حد وإن هدفنا هو إنقاذ المصابين، لكن طلبنا قوبل بالرفض، فقررنا التوجه إلى مستشفى الهلال والاستعانة بأطباء ملتحين وبرضو رفضوا، ولما فشلت كل محاولاتنا رجعنا بعربيتنا تانى إلى المرفق، ولقينا بعد كده الإخوان طلعوا على قناة الجزيرة وبيقولوا إن مفيش عربيات إسعاف وإن مصابين بيموتوا». لا يجد «عبدالمرضى» سبباً مقنعاً لاتهامات الإخوان خاصة أنه قام وزملاؤه بإسعاف عدد كبير منهم داخل قسم الأزبكية، حيث ذهب وفد من المسعفين إلى القسم ليطمئنوا على من تم إلقاء القبض عليهم وتقديم الخدمات الإسعافية لهم لأنها حق لكل مصاب. عمل المسعف أيضاً لا يتوقف على تقديم الخدمات الإسعافية للمرضى فقط، بل يصل فى بعض الأحيان إلى مساعدة المتظاهرين فى أى مشاكل يتعرضون لها، مستدلاً بحالات التحرش التى قد تتعرض لها فتيات فى الميدان وأن المتظاهرين استعانوا به أكثر من مرة لإنقاذ الفتيات من خلال الدخول بسيارته إلى المكان لإنقاذ الفتيات داخل السيارة، معللاً ذلك بالثقة التى نشأت بينه وبين الثوار خلال الثلاث سنوات التى قضاها فى الميدان، ليصبح شكله وسيارته محفوظين لدرجة تصل إلى عدم تفتيش السيارة خلال دخولها إلى الميدان. الثقة التى تولدت بين الثوار والمسعفين يرجعها «عبدالمرضى» إلى الأسلوب الجديد الذى اتبعته إدارة مرفق إسعاف القاهرة فى الفترة الأخيرة، من خلال التمركزات التى أنشأتها الإدارة فى الميادين خاصة المستشفيات الميدانية، حيث دفعت بسيارات إسعاف متكاملة تصلح لإجراء جراحات داخل الميدان، وذلك لكى تقلل الضغط على المستشفيات فى حال وقوع أى اشتباكات فى الميدان. المستشفيات الميدانية ساعدت المسعفين على أداء واجبهم بشكل كبير، وبدلاً من أن يقتصر عمل المسعف على الإسعافات الأولية لحين إيصال المصاب إلى المستشفى، أصبحت المستشفيات الميدانية تقوم بإسعاف المصابين بل وإجراء العمليات الجراحية البسيطة، ف«عبدالمرضى» ما زال يتذكر الطلق النارى الذى اخترق بطن أحد المتظاهرين فى أحداث المقطم وكيف أنه استطاع إخراج هذا الطلق وتخييط الجرح إلى أن تم نقل المصاب إلى المستشفى الذى أوصت بخروجه بعدها بيوم واحد، وكذلك حالة الولادة التى أجراها لسيدة فى مليونية تفويض الجيش فى ميدان الاتحادية، ليستقبل السيسى الصغير بعدما لفه فى علم مصر وأخرجه للمتظاهرين. نقل المصاب يكون لأقرب مستشفى إلا إذا طلب المرافقون للمصاب نقله إلى مستشفى أخرى، «وهو ما حدث معنا أكثر من مرة»، مستشهداً بموضوع «الحسينى أبوضيف» الذى قال إن زملاءه رفضوا نقله إلى مستشفى البكرى بعدما علموا أن المستشفى يوجود به أشخاص تابعون لجماعة الإخوان، ليتم نقله إلى مستشفى الزهراء بعد ذلك، وهو ما يحدث حالياً من مصابى وقتلى جماعة الإخوان المسلمين الذين يطلبون نقل مصابيهم وضحاياهم إلى مستشفى التأمين. «الإجازة» رفاهية طالما حلم بها «عبدالمرضى» منذ رفع حالة الطوارئ فى 30 يونيو الماضى، فالأحداث التى توالت ما بين أحداث الحرس الجمهورى والمنصة وبين السرايات والمنيل وعبدالمنعم رياض - كانت كفيلة بأن تصبح الإجازة حلماً والذهاب للمبيت فى المنزل من المستحيلات، ويصبح الهاتف المحمول هو وسيلة الاتصال بين محمد وزوجته: «ساعات كتير بنروح بيتنا بعد الشغل، وأول ما بنوصل بنسمع إن فيه اشتباكات والمشرف بيكلمنى عشان أجهز بسيارتى وأطلع على مكان الاشتباكات بعدما أودع زوجتى، وما اعرفش ساعتها إذا كنت هارجع لها تانى ولّا لأ، خلاص البيت اتعود على كده».