تنسيق الثانوية العامة 2025 ..شروط التنسيق الداخلي لكلية الآداب جامعة عين شمس    فلكيًا.. موعد إجازة المولد النبوي 2025 في مصر و10 أيام عطلة للموظفين في أغسطس    رسميًا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الجمعة 1 أغسطس 2025    5 أجهزة كهربائية تتسبب في زيادة استهلاك الكهرباء خلال الصيف.. تعرف عليها    أمازون تسجل نتائج قوية في الربع الثاني وتتوقع مبيعات متواصلة رغم الرسوم    إس إن أوتوموتيف تستحوذ على 3 وكالات للسيارات الصينية في مصر    حظر الأسلحة وتدابير إضافية.. الحكومة السلوفينية تصفع إسرائيل بقرارات نارية (تفاصيل)    ترامب: لا أرى نتائج في غزة.. وما يحدث مفجع وعار    الاتحاد الأوروبى يتوقع "التزامات جمركية" من الولايات المتحدة اليوم الجمعة    باختصار.. أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. مستندات المؤامرة.. الإخوان حصلوا على تصريح من دولة الاحتلال للتظاهر ضد مصر.. ومشرعون ديمقراطيون: شركات أمنية أمريكية متورطة فى قتل أهل غزة    مجلس أمناء الحوار الوطنى: "إخوان تل أبيب" متحالفون مع الاحتلال    حماس تدعو لتصعيد الحراك العالمي ضد إبادة وتجويع غزة    كتائب القسام: تدمير دبابة ميركافا لجيش الاحتلال شمال جباليا    عرضان يهددان نجم الأهلي بالرحيل.. إعلامي يكشف التفاصيل    لوهافر عن التعاقد مع نجم الأهلي: «نعاني من أزمة مالية»    محمد إسماعيل يتألق والجزيرى يسجل.. كواليس ودية الزمالك وغزل المحلة    النصر يطير إلى البرتغال بقيادة رونالدو وفيليكس    الدوري الإسباني يرفض تأجيل مباراة ريال مدريد أوساسونا    المصري يفوز على هلال الرياضي التونسي وديًا    انخفاض درجات الحرارة ورياح.. بيان هام من الأرصاد يكشف طقس الساعات المقبلة    عملت في منزل عصام الحضري.. 14 معلومة عن البلوجر «أم مكة» بعد القبض عليها    بعد التصالح وسداد المبالغ المالية.. إخلاء سبيل المتهمين في قضية فساد وزارة التموين    حبس المتهم بطعن زوجته داخل المحكمة بسبب قضية خلع في الإسكندرية    ضياء رشوان: إسرائيل ترتكب جرائم حرب والمتظاهرون ضد مصر جزء من مخطط خبيث    عمرو مهدي: أحببت تجسيد شخصية ألب أرسلان رغم كونها ضيف شرف فى "الحشاشين"    عضو اللجنة العليا بالمهرجان القومي للمسرح يهاجم محيي إسماعيل: احترمناك فأسأت    محيي إسماعيل: تكريم المهرجان القومي للمسرح معجبنيش.. لازم أخذ فلوس وجائزة تشبه الأوسكار    مي فاروق تطرح "أنا اللي مشيت" على "يوتيوب" (فيديو)    تكريم أوائل الشهادات العامة والأزهرية والفنية في بني سويف تقديرا لتفوقهم    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    الزمالك يهزم غزل المحلة 2-1 استعدادًا لانطلاقة بطولة الدوري    اصطدام قطار برصيف محطة السنطة وتوقف حركة القطارات    موندو ديبورتيفو: نيكولاس جاكسون مرشح للانتقال إلى برشلونة    مجلس الشيوخ 2025.. "الوطنية للانتخابات": الاقتراع في دول النزاعات كالسودان سيبدأ من التاسعة صباحا وحتى السادسة مساء    «إيجاس» توقع مع «إيني» و«بي بي» اتفاقية حفر بئر استكشافي بالبحر المتوسط    مجلس الوزراء : السندات المصرية فى الأسواق الدولية تحقق أداء جيدا    فتح باب التقدم للوظائف الإشرافية بتعليم المنيا    رئيس جامعة بنها يصدر عددًا من القرارات والتكليفات الجديدة    أحمد كريمة يحسم الجدل: "القايمة" ليست حرامًا.. والخطأ في تحويلها إلى سجن للزوج    فوائد شرب القرفة قبل النوم.. عادات بسيطة لصحة أفضل    متى يتناول الرضيع شوربة الخضار؟    تكريم ذوي الهمم بالصلعا في سوهاج.. مصحف ناطق و3 رحلات عمرة (صور)    حركة فتح ل"إكسترا نيوز": ندرك دور مصر المركزى فى المنطقة وليس فقط تجاه القضية الفلسطينية    أمين الفتوى يوضح أسباب إهمال الطفل للصلاة وسبل العلاج    الداخلية: مصرع عنصر إجرامي شديد الخطورة خلال مداهمة أمنية بالطالبية    الإفتاء توضح كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر    الشيخ خالد الجندى: من يرحم زوجته أو زوجها فى الحر الشديد له أجر عظيم عند الله    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير الخارجية الفرنسي: منظومة مساعدات مؤسسة غزة الإنسانية مخزية    ممر شرفى لوداع لوكيل وزارة الصحة بالشرقية السابق    رئيس جامعة بنها يشهد المؤتمر الطلابي الثالث لكلية الطب البشرى    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مالك بن دينار.. عَلم الأبرار وكاتب المصاحف
نشر في الوطن يوم 18 - 07 - 2013

ناسخ المصحف وقارئ القرآن، الذى تمثل آياته وجسدها فى حياته الزاهدة البسيطة على قدر استطاعته. هو الباحث عن الحكمة فى أى كتاب، ولذا طالما اقتطف من التوراة ورجع إليها، وألقى منها على مسامع الناس. كان محدثا وصوفيا، هداه الله بعد ضلال، وألزمه بعد انحلال، وربط على قلبه بعد زيغ، وانتشله من الضياع، وثبته بعد أن كان قشة فى مهب الريح، فخلى الدنيا وراء ظهره، وعاش على فتات الطعام وخشن الفراش، غير راغب فى شىء سوى مرضاة الله، وغير نادم على شىء سوى الأيام التى قضاها بعيدا عن ربه.
هو أبويحيى مالك بن دينار البصرى، وُلد فى البصرة بالعراق، أيام ابن عباس، وسمع من أنس بن مالك، وشهد له كثيرون، فوصفه الذهبى بأنه علم العلماء الأبرار، معدود فى ثقات التابعين. ومن أعيان كتبة المصاحف، وحدث عنه سعيد بن جبير والحسن البصرى وآخرون، وحدث عنه سعيد بن أبى عروبة وطائفة سواه، وقد وثقه النسائى وغيره، واستشهد به البخارى. وقال فى حقه سليمان التيمى: ما أدركت أحداً أزهد من مالك بن دينار.
وقد تأثر ابن دينار بكثيرين من أخيار التابعين، فى مطلعهم محمد بن واسع، الذى كان له معه حكايات تروى. وقد اجتمع الاثنان فتذاكرا العيش، فقال مالك: ما شىء أفضل من أن يكون للرجل غلة يعيش فيها، فقال محمد: طوبى لمن وجد غداء ولم يجد عشاء، ووجد عشاء ولم يجد غداء وهو عن الله راض أو قال: والله عنه راض.
وذات يوم قدم أمير من أمراء البصرة على قراء المدينة، فبعث إلى مالك بن دينار فقبل وأبى محمد بن واسع فقال: «يا مالك قبلت جوائز السلطان؟ فقال: يا أبا بكر، سل جلسائى. فقالوا: يا أبا بكر، اشترى بها رقابا فأعتقهم. فقال له محمد: أنشدك الله أقلبك الساعة له على ما كان عليه قبل أن يجزيك، قال: اللهم لا. قال: ترى أى شىء دخل عليك؟ فقال مالك لجلسائه: إنما مالك جمار، إنما يعبد الله مثل محمد بن واسع».
ولم يكن ابن دينار عابدا أو زاهدا أو ملتزما بحقوق الدين عليه منذ مقتبل حياته، بل على النقيض من هذا تماما، حتى جاءت لحظة فى حياته جعلته ينتقل من النقيض إلى النقيض. وقد سُئل عن سبب توبته فقال: «كنت شرطياً وكنت منهمكاً على شرب الخمر، ثم إننى اشتريت جارية نفيسة ووقعت منى أحسن موقع، فولدت لى بنتا فشغفت بها، فلما دبت على الأرض ازدادت فى قلبى حبا وألفتنى وألفتها، فكنت إذا وضعت المسكر بين يدى جاءت إلىّ وجاذبتنى عليه وهرقته من ثوبى، فلما تم لها سنتان ماتت فأكمدنى حزنها، فلما كانت ليلة النصف من شعبان وكانت ليلة الجمعة بت ثملاً من الخمر ولم أصل فيها عشاء الآخرة، فرأيت فيما يرى النائم كأن القيامة قد قامت ونُفِخَ فى الصور وبُعثِرَت القبور وحُشِرَ الخلائق وأنا معهم فسمعت حساً من ورائى فالتفتُّ فإذا أنا بتنين أعظم ما يكون أسود أزرق قد فتح فاه مسرعاً نحوى، فمررت بين يديه هارباً فزعاً مرعوباً، ولقيت فى طريقى شيخاً نقى الثوب طيب الرائحة فسلمت عليه فرد السلام فقلت: أيها الشيخ، أجرنى من هذا التنين أجارك الله، فبكى الشيخ وقال لى: أنا ضعيف وهذا أقوى منى وما أقدر عليه، ولكن مر وأسرع فلعل الله أن يتيح لك ما ينجيك منه، فوليت هارباً على وجهى فصعدت على شرف من شرف القيامة فأشرفت على طبقات النيران فنظرت إلى هولها وكدت أهوى فيها من فزع التنين، فصاح بى صائح: ارجع فلست من أهلها فاطمأننت إلى قوله، ورجعت ورجع التنين فى طلبى فأتيت الشيخ فقلت: يا شيخ، سألتك أن تجيرنى من هذا التنين فلم تفعل فبكى الشيخ وقال: أنا ضعيف ولكن سر إلى هذا الجبل فإن فيه ودائع المسلمين فإن كان لك فيه وديعة فستنصرك، قال: فنظرت إلى جبل مستدير من فضة، وفيه كوى مخرمة وستور معلقة على كل خوخة وكوة ومصراعان من الذهب الأحمر مفصلة باليواقيت مكوكبة بالدر على كل مصراع ستر من الحرير، فلما نظرت إلى الجبل وليت إليه هارباً والتنين من ورائى، حتى إذا قربت منه صاح بعض الملائكة: ارفعوا الستور وافتحوا المصاريع وأشرفوا فلعل لهذا البائس فيكم وديعة تجيره من عدوه، فإذا الستور قد رفعت والمصاريع قد فتحت فأشرف علىّ من تلك المخرمات أطفال بوجوه كالأقمار، وقرب التنين منى فتحيرت فى أمرى فصاح بعض الأطفال: ويحكم أشرفوا كلكم فقد قرب منه عدوه فأشرفوا فوجاً بعد فوج، وإذا أنا بابنتى التى ماتت قد أشرفت علىّ معهم، فلما رأتنى بكت وقالت: أبى والله ثم وثبت فى كفة من نور كرمية السهم حتى مثلت بين يدى فمدت يدها الشمال إلى يدى اليمنى فتعلقت بها ومدت يدها اليمنى إلى التنين فولى هارباً، ثم أجلستنى وقعدت فى حجرى وضربت بيدها اليمنى إلى لحيتى وقالت: يا أبت (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ). فبكيت وقلت: يا بنية، وأنتم تعرفون القرآن؟ فقالت: يا أبت نحن أعرف به منكم، قلت: فأخبرينى عن التنين الذى أراد أن يهلكنى؟ قالت: ذلك عملك السوء قويته فأراد أن يغرقك فى نار جهنم. قلت: فأخبرينى عن الشيخ الذى مررت به فى طريقى؟ قالت: يا أبت ذلك عملك الصالح أضعفته حتى لم يكن له طاقة بعملك السوء، قلت: يا بنية وما تصنعون فى هذا الجبل، قالت: نحن أطفال المسلمين قد أُسكنا فيه إلى أن تقوم الساعة ننتظركم تقدمون علينا فنشفع لكم». قال مالك: «فانتبهت فزعاً وأصبحت فأرقت المسكر وكسرت الآنية، وتبت إلى الله».
وكان ابن دينار ينسخ المصاحف ويتلو منها على الناس، ويقول: يا حملة القرآن، ماذا زرع القرآن فى قلوبكم؟ فإن القرآن ربيع المؤمن، كما أن الغيث ربيع الأرض فقد ينزل الغيث من السماء إلى الأرض فيصيب الحش فتكون فيه الحبة فلا يمنعها نتن موضعها أن تهتز وتخضر. فيا حملة القرآن، ماذا زرع القرآن فى قلوبكم؟
ويروى ابن دينار عن حرفته تلك حكايات تدل على أنه كان راغبا فيها ومقبلا عليها، رغم أن كسبه منها كان قليلا، ومنها تلك التى يقول فيها: دخل علىّ جابر بن زيد، وأنا أكتب، فقال: يا مالك، ما لك عمل إلا هذا؟ تنقل كتاب الله، هذا والله الكسب الحلال. وعن شعبة، قال: كان أدم مالك بن دينار فى كل سنة بفلسين ملحاً.
وقال جعفر بن سليمان: كان ابن دينار ينسخ المصحف فى أربعة أشهر، فيدع أجرته عند البقال فيأكله. وعنه: «لو استطعت لم أنم مخافة أن ينزل العذاب. يا أيها الناس، النار النار».
وعُرف عن مالك بن دينار حفظه للقرآن وتعلقه به، فكان من أحفظ الناس له، وكان يقرأ على أصحابه كل يوم جزءاً منه حتى يختم، فإن أسقط حرفاً قال: ذنب منى وما الله بظلام للعبيد.
وهنا يوصى أتباعه: «إن من الناس ناساً إذا لقوا القراء ضربوا معهم بسهم، وإذا لقوا الجبابرة وأبناء الدنيا أخذوا معهم بسهم، فكونوا من قراء الرحمن بارك الله فيكم».
وقد حدث جعفر بن سليمان قال: سمعت مالك بن دينار يقول: «يا حملة القرآن، ماذا زرع القرآن فى قلوبكم؟ فإن القرآن ربيع المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض. فإن الله ينزل الغيث من السماء إلى الأرض فيصيب الحسَّ فتكون فيه الحبة فلا يمنعها نتن موضعها من أن تهتز وتخضر وتحسن، فيا حملة القرآن، ماذا زرع القرآن فى قلوبكم؟ أين أصحاب سورة؟ أين أصحاب سورتين؟ ماذا عملتم فيهما؟».
ويقول هشام بن حسان، واصفاً خوف مالك بن دينار من الله وهو يقرأ القرآن: انطلقت أنا ومالك بن دينار إلى الحسن وعنده رجل يقرأ «والطور... » حتى بلغ «إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ» فبكى الحسن وبكى أصحابه فجعل مالك يضطرب حتى غشى عليه.
ويقول الحارث بن سعيد: كنا عند مالك بن دينار وعنده قارئ يقرأ فقرأ «إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا» فجعل مالك ينتفض وأهل المجلس يبكون ويصرخون حتى انتهى إلى هذه الآية: «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ» فجعل مالك والله يبكى ويشهق حتى غشى عليه، فحمل من بين القوم صريعاً!
كما طالع ابن دينار التوراة، وردد منها أقوالاً عديدة مثل تلك التى تذكر: «أيها الصديقون تنعموا بذكر الله فى الدنيا، فإنه لكم فى الدنيا نعيم وفى الآخرة جزاء عظيم» ومنها أيضا: «سبحوا الله أيها الصديقون بأصوات حزينة» و«زمرنا لكم فلم ترقصوا» أى: نصحناكم فلم تستجيبوا لنا.
ومن الأقوال التى كان يذكرها من التوراة أيضا على مسامع الناس: «يا بن آدم لا تعجز أن تقوم بين يدى فى صلاتك باكيا، فإنى أنا الله الذى اقتربت لقلبك، وبالغيب رأيت نورى». ومنها ما ينسب إلى نبى الله داوود، عليه السلام: «يا معاشر الأتقياء تعالوا أعلمكم خشية الله، أيما عبد منكم أحب أن يحيا ويرى الأعمال الصالحة فليحفظ عينيه أن ينظر إلى السوء ولسانه أن ينطق بالإفك عين الله إلى الصديقين وهو يسمع لهم».
وكان ابن دينار شجاعا لا يخشى فى الحق لومة لائم؛ فها هو يدخل ذات مرة على والى البصرة، فقال له: ادع لى. فنظر إليه وقال: «كم من مظلوم بالباب يدعو عليك».
وهناك حكاية أخرى تدل على شجاعته وثباته؛ فقد دخل عليه لص فما وجد ما يأخذ، فناداه مالك: لم تجد شيئا من الدنيا، أترغب فى شىء من الآخرة؟ قال: نعم. قال: توضأ وصل ركعتين. ففعل ثم جلس وخرج إلى المسجد فسُئل: من ذا؟ قال: جاء ليسرق فسرقناه.
وطالما حض مالك بن دينار على الصدق، بوصفه القيمة الأساسية فى الإسلام، وعبر عن هذا قائلا: «الصدق والكذب يعتركان فى القلب حتى يخرج أحدهما صاحبه»، ثم ضرب مثلا شارحا فيه ما يعنيه فى هذا المقام فقال: «الصدق يبدو فى القلب ضعيفا كما يبدو نبات النخلة، يبدو غصنا واحدا، فإذا نتفها صبى ذهب أصلها وإن أكلتها عنز ذهب أصلها، فتسقى فتنتشر، وتسقى فتنتشر، حتى يكون لها أصل أصيل يوطأ، وظل يستظل به، وثمرة يؤكل منها، كذلك الصدق يبدو فى القلب ضعيفا فيتفقده صاحبه، ويزيده الله تعالى، ويتفقده صاحبه فيزيده الله، حتى يجعله الله بركة على نفسه، ويكون كلامه دواء للخاطئين».
وكان ابن دينار عابداً قانتاً، يقوم الليل، ذاكراً مسبحاً ومتبتلاً لله تعالى. وهنا يحكى لنا المغيرة بن حبيب حكاية تدل على هذا؛ حيث قال: «يموت مالك بن دينار وأنا معه فى الدار ولا أدرى ما عمله». قال: فصليت العشاء الآخرة ثم جئت فلبست قطيفة فى أطول ما يكون الليل. قال: وجاء مالك فقرب رغيفه فأكل ثم قام إلى آخر الصلاة، فاستفتح ثم أخذ بلحيته فجعل يقول: إذا جمعت الأولين والآخرين فحرم شيبة مالك بن دينار على النار، فوالله ما زال كذلك حتى غلبتنى عينى، ثم انتبهت فإذا هو على تلك الحال يقدم رجلاً ويؤخر أخرى يقول: «يا رب إذا جمعت الأولين والآخرين فحرّم شيبة مالك بن دينار على النار» فما زال كذلك حتى طلع الفجر».
كما كان ابن دينار زاهداً فى المال والجاه، ولم يكن يرى فى الدنيا شيئاً أو أمراً يستحق أن ينشغل به العبد سوى معرفة الله، ولهذا قال: «نظرت فى أصل كل إثم فلم أجده إلا حب المال، فمن ألقى عنه حب المال فقد استراح». أما رفض التكالب على متع الدينا الزائلة فقد عبّر عنه ذات يوم حين خاطب بعض الناس: «يا هؤلاء إن الكلب إذا طرح إليه الذهب والفضة لم يعرفهما، وإذا طرح إليه العظم أكب عليه، كذلك سفهاؤكم لا يعرفون الحق».
وقال جعفر بن سليمان، سمعت مالكاً يقول: وددت أن الله يجمع الخلائق، فيأذن لى أن أسجد بين يديه، فأعرف أنه قد رضى عنى، فيقول لى: كن ترابا». وكان يقول أيضا: «وددت أن رزقى فى حصاة أمتصها لا ألتمس غيرها حتى أموت».
ويقول سلام بن أبى مطيع: دخلنا على مالك بن دينار ليلاً وهو فى بيت بغير سراج، وفى يده رغيف يكدمه فقلنا: أبا يحيى ألا سراج؟ ألا شىء تضع عليه خبزك؟ فقال: دعونى فوالله إنى لنادم على ما مضى.
وعن أبى داوود، صاحب الطيالسة، قال: سمعت شيخاً كان جاراً لمالك بن دينار، قد روى عنه قال: كنت مع مالك فى طريق مكة فقال: إنى داع بشىء فأمنوا عليه، ثم قال: اللهم لا تدخل بيت مالك بن دينار من الدنيا قليلاً ولا كثيراً.
واشتهى رغيفاً بلبن رائب فلما ناله جعل مالك يقلبه وينظر إليه ثم قال: اشتهيتك منذ أربعين سنة فغلبتك؛ حتى كان اليوم وتريد أن تغلبنى.. إليك عنى. وأبى أن يأكله.
ووقع حريقٌ فى بيت مالك فأخذ المصحف وأخذ القطيفة فأخرجهما، فقيل له: يا أبا يحيى البيت. قال: ما لنا فيه السدانة ما أبالى أن يحترق.
وإلى جانب الزهد والذكر كان ابن دينار يرى أن الحزن خصلة من خصال المؤمن؛ لأنه يكون دوما مطاردا بشعور التقصير فى حق الله عليه، وخائفا من أهوال يوم القيامة، ولهذا كان يقول: «إذا لم يكن فى القلب حزن خرب، كما إذا لم يكن فى البيت ساكن يخرب». وكان يقول أيضا: «بقدر ما تحزن للدنيا كذلك يخرج همّ الآخرة».
ومر المهلب على مالك بن دينار متبخترا، فقال: أما علمت أنها مشية يكرهها الله إلا بين الصفين؟ فقال المهلب: أما تعرفنى؟
قال: بلى، أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة. فانكسر، وقال: الآن عرفتنى حق المعرفة.
وقال: مذ عرفت الناس لم أفرح بمدحهم، ولم أكره ذمهم؛ لأن حامدهم مفرط، وذامهم مفرط، إذا تعلم العالم العلم للعمل كسره، وإذا تعلمه لغير العمل زاده فخر.
وكانت لابن دينار أقوال تنطق بالحكمة والزهد، وتنطوى على معانٍ عميقة وبصيرة نافذة، وتنبع من تجربة حياتية ذات بال، ومن بينها:
«ما تنعم المتنعمون بمثل ذكر الله».
«من تباعد من زهرة الدنيا فذاك الغالب هواه».
«من علامة حب الدنيا: أن يكون دائم البطنة».
«الخوف على العمل ألا يتقبل أشد من العمل».
«من علامات المنافق: يحب أن ينفرد بالصيت».
«كان الأبرار يتواصون بثلاث: بسجن لسان، وكثرة الاستغفار، والعزلة».
ولم يقطع المؤرخون بوقت رحيل ابن دينار عن الدنيا، فهناك من يقول إنه توفى بالبصرة سنة 130ه 748م، وهناك من يؤكد أنه مات فى السنة التى تلتها، وذلك قبل انتشار الطاعون فى البصرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.