دورتان حول الشمس تفصلانى عن الإحالة إلى المعاش، هذا إن كان فى العمر بقية تسمح بهاتين الدورتين. عامان بعدهما تقول لى القوانين الوضعية «قِف، ولا حركة، سَلَّم نِمَرَك، اقعد تحت أقرب حيط، إحنا مش ناقصينك». هكذا تجرى أحداث الفصل الأخير من مسرحية لعب المواطن بطولة أحداثها ربما باقتدار، يطيب لنا دوماً تذكير بنات حواء حتى وإن صرن جدَّات، بأنهن «يكفرن العشير». يحدث هذا فى وقت ينكر المجتمع بأسره أو غالبيته فضل ودور وحق البالغين سن التقاعد، والنظر إليهم بوصفهم «زيادة عدد» وأنهم المقصودون ب«كُتر الأيادى فى الزبادى تضرنى»، أى أنهم مجرد أيادٍ تتسابق إلى قصعة الطعام لا أكثر. يحدث هذا وأكثر مع آبائنا وأجدادنا والسابقين لنا إلى محطة وصول سن الستين، التى كثيراً ما تكون المحطة الأكثر ثراء وعطاء وحيوية وصدقاً وإيثاراً وتفانياً وخبرة طبعاً. تقصر الأيادى الممتدة والممدودة إلى هذه الشريحة المعطاءة فتشعر، وهى الجذور، بتخلَّى الساق والفروع عنها والتنكر لها، ربما يومها تتقوقع حول نفسها فتفترسها الهواجس والظنون والشعور بخيبة الأمل فيأخذ الندم منها كل مأخذ فتكف يدها قسراً عن العطاء. إنها شريحة لا يمكن إغفالها والتغافل عنها وإلا فإن المجتمع يرتكب جرائم عديدة فى حقها وهى صاحبة الحقوق عليه وصاحبة الأفضال والعطاءات من قبل. ومن هنا يمكن التحدث عن فرص عديدة يمكن إتاحتها لمنتسبى هذه الشريحة رداً لجميلها وتكريماً لها ومنحها مساحات تعطى من خلالها وتشعر بكينونتها وتحيا ربيعاً فى خريف العمر، لذا يمكن تكريمهم بالمد للراغبين منهم فى الخدمة لمدة عامين مثلاً بمقابل مادى رمزى لأن الهدف هو بقاؤهم بين زملائهم، ويمكن منحهم فرصة السفر فى طول البلاد وعرضها بتذاكر نصف أجرة، وإقامتهم فى فنادق النقابات بنصف التسعيرة المقررة، ودخولهم مسارح الدولة ودور العرض السينمائى بأسعار مميزة، ويمكن منحهم اشتراكات فى الصحف والمجلات بنصف المبالغ المحددة، كما يمكن للأثرياء تبنى بث قناة تليفزيونية يصبح المتقاعد وكبار السن بؤرة نشاطها، قناة واحدة بين مئات قنوات «الهِشَّك بِشَّك»، ويمكن إصدار مطبوعة ورقية فى صورة صحيفة أو مجلة يصبح كاتبها وقارئها هو عزيزى المُسِن، أخباره ومشكلاته وأمانيه وحوادثه وإبداعاته، وأيضا إذاعة نسمع مذيعها يقول وبصوت جهورى «إذاعة العواجيز من القاهرة». هذا وزيادة فى الدّلَع يمكن لمواطنى دولة المعاش أو التقاعد أو حتى الشيخوخة أن تتاح لهم فرصة شراء المهلبية والجيلى والآيس كريم بأسعار تنافسية مغرية، أى مخفضة، وعلى هامش الجيلى وخلافه ننصح أطباء الأسنان بالتعامل مع أصحاب الأفواه المهجورة بأسعار تعيد الأفواه عامرة بأسنان هى كالباروكة التى تستعملها السيدة «القرعة» أو قل خشنة الشعر. هذا ولأن المتقاعدين يمثلون رجاحة العقل وحسن الاختيار فإننا نغريهم بالمشاركة فى العملية الانتخابية ونعدهم بأن الواحد منهم باثنين من الناخبين، وفى الحقيقة الواحد بعشرة لأن الغالبية العظمى تصوت ولا تدرى لمن تصوت ولا تدرى هل هى انتخابات مجلس قروى أم مجلس شعب أم مجلس أُنس أم مجلس طراطير أم انتخابات الرئيس الذى سيتم قتله أو خلعه بعد سنوات من العنطزة. وقبل كل ما سبق وبعده لا ننس ضرورة احترام هذه الشريحة ولا ننس أن مرشحى رئاسة الجمهورية جاءت الغالبية العظمى منهم ممن غنوا لهم فى الماضى القريب «يا راجل يا عجوز مناخيرك كد مش عارف إيه» كما غنت لهم ليلى نظمى «ما أخدش العجوز أنا»، ربما لو سألوها اليوم لقالت «ما أخدش إلا العجوز أنا» وطبعاً تقصد زواجها من الرئيس وهى تعرف جيداً أنه غير مرتبط.