كانت لى أم جميلة القلب والمشاعر رحمها الله، أوصتنى منذ طفولتى بجبر الخواطر، وشرحت لى وأفاضت فى معنى هذه الكلمة ومغزاها ومكافأة الله لى إن نفذتها. وها أنا أوصيكم بها لأنها من أعظم الأعمال التى تقرب، ليس من الله فقط، بل من عبيده، فحامل هذه الصفة يستمتع طوال حياته بمشاعر الحب والامتنان والقرب من المحيطين به. وجبر الخواطر كما علمتنى أمى هو أُسلوب حياة سلس نواجه به قسوة الأيام من حولنا، فما أشد قسوة كلمة «كسر بخاطرى» وما أجمل دعاء «الله يجبر بخاطرك». وهذه الكلمات التى لا نهتم بها كثيراً، لأننا اعتدنا سماعها دون التفكير فى معناها أو تأثيرها علينا وعلى المحيطين بِنَا. هذه الكلمات لو تأملنا تأثيرها فى نفوس مَن حولنا لتغيرنا كثيراً، فكثيرة تلك المواقف التى يمكن استغلالها لجبر الخواطر وإسعاد الآخرين. وإذا أردنا أن نبحث عن أصل الكلمة، ففى معجم المعانى الجامع والمعجم الوسيط واللغة العربية المعاصر ومعجم عربى عربى معنى كلمة «يجبر» وتعريفه «جبر، يجبر، جبراً، وجبوراً وجبارة فهو جابر والمفعول مجبور للمعتدى وجبر العظم أى صلح، وجبر العظم المكسور أى أصلح كسره، ومن المجاز جبر الفقير من الفقر، وكذلك اليتيم، وكذا فى المحكم يجبره جبراً». ومن ذكريات الزمن القديم الجميل لدى سكان حى مصر القديمة «برسوم المجبراتى» ذلك الطبيب العجوز الذى عاش حتى اقترب من التسعين عاماً، وكانت عيادته القريبة من النيل من أهم معالم الحى، فقد كان المترددون عليها يومياً بالعشرات، لندرة هذا التخصّص قديماً وجاء اسمه من جبر العظام، فقد تخصّص فى ذلك، والجميل أنه برع أيضاً فى جبر الخواطر، فقد اشتهر بعلاجه للفقراء مجاناً، وكان يُردّد دائماً أن الله جبر خاطره بالشهرة والمال، لذا وجب عليه مراعاة الفقير والعناية به كالأغنياء. وإذا أردنا أن نصل إلى القيمة العظيمة لجبر الخواطر، فعلينا أن نتذكر الحديث الشريف عن رسولنا، صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم فى الجنة هكذا»، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما. وأعتقد أن هذا الحديث هو الشرح الوافى الكافى لجائزة السماء لجابر خاطر اليتيم. وفى المشهد اليومى الذى يقابله كل منا منذ الساعات الأولى فى الصباح وحتى المساء، فإن فرصة الحصول على تلك الجائزة متاحة للجميع فأى سعادة تلك التى سيشعر بها الصغير الذى يعمل فى جمع القمامة إن ابتسمت فى وجهه عند التقاء عيونكما وألقيت تحية الصباح عليه، فتلك المهنة التى تشعره بالدونية تترك بصمات عميقة داخله، ويتمنى لو عاش حياة أطفالك، وارتدى ملابسهم، وذهب مثلهم إلى المدرسة، قد تخف حدتها وقسوتها بجبر خاطره بابتسامة يومية. أما البائع العجوز الذى تشترى منه بلين ومودة وابتسامة بدلاً من عبوث الوجه أو حدة الصوت، فهو نوع آخر من جبر الخاطر. ولا يمكن أن ننسى تلك السيدة التى تساعدنا فى المنزل وعلاقتنا بها التى يشكو منها أغلب العائلات، فإن وضعنا اسم هذه المقالة عنواناً لتعاملنا معها لاختلف الأمر كثيراً، ولأصبحت عضواً فى العائلة يصعب إخراجه منها، لأن المنظومة الإنسانية التى تحكم علاقتنا داخل الأسرة يسهل أن تحتويها وأن تشعرها بأهميتها، ومن الصعب الاستغناء عنها. ولا يختلف الأمر كثيراً داخل الجامعة عن تلك الأمثلة التى تحدثنا عنها، لأن اختلاف المستوى الاجتماعى والمادى بين الزملاء لا بد أن يتم التعامل بحرص شديد حتى لا نخرج للمجتمع أجيالاً مريضة النفس تشعر بالظلم من الأقدار. والطريف أن الشعراء وكتاب العامية لم ينسوا هذا المعنى الجميل، فسمعنا الفنان الكبير فريد الأطرش فى فيلم «تعالى سلم» فى الخمسينات يشدو «جبر الخواطر على الله، مش طالب منك غير طلة، تعالى سلم وأنا أسلم بالعين وبس مانتكلم». كما غنى محمود شكوكو «جبر الخواطر على الله، والله ما أحب غيرك والله. وانت ليه ماتحبنيش، إلهى تحب، قول إن شاء الله».