بجانب ما ينتجه التوظيف المتصاعد لثنائية الدين والسياسة من تناقضات، ذات طبيعة دستورية وقانونية وسياسية، مع مبادئ الديمقراطية والمواطنة وتداول السلطة ومن تراجع قدرتنا على ضبط العلاقة بين مكونى الثنائية هذه، تأتى مجموعة أخرى من التناقضات ذات الطبيعة المجتمعية، التى تباعد بين مصر وبين بناء شرعية العدالة والمساواة والحرية الضرورية للدولة العصرية. فمن جهة أولى، يعصف تضخم ثنائية الدين والسياسة بالقاعدة الأساس للعدالة، والمتمثلة فى تكافؤ الفرص بين كافة المواطنات والمواطنين دون تمييز، ولا تختلف هنا أخونة الأجهزة التنفيذية والإدارية للدولة بتعيين الموالين والمقربين من الأهل والعشيرة عن تهميش الأقباط فى المؤسسات التشريعية والتنفيذية والخطاب الإنكارى الذى تروج له فى هذا السياق الأحزاب والقوى الموظفة لثنائية الدين والسياسة، ولا تختلف الظاهرتان هاتان عن التقدم المضمون لمرشحى أحزاب اليمين الدينى على منافسيهم فى الانتخابات البرلمانية والرئاسية، بفعل توظيف الرمزية والشعارات الدينية وادعاء الالتزام بالمنظومات القيمية والأخلاقية المقترنة بها. فالجوهر هو العصف بتكافؤ الفرص والتأسيس لانقسامات مجتمعية حادة وتغييب شرعية العدالة وعدم التمييز إن فى تقلد المناصب العامة أو فى التمثيل بالمؤسسات أو فى الحظوظ الانتخابية، ومن ثم هدم أسس البناء الديمقراطى. من جهة ثانية، يرتب التوظيف المتصاعد لثنائية الدين والسياسة تناقضا صارخا مع شرعية المساواة المجتمعية ويدفع بمصر بعيدا عن البناء الديمقراطى السليم. بعيدا عن النواقص الخطيرة التى ترد اليوم على المساواة بين المواطنات والمواطنين أمام القانون، تنزلق مصر إلى وضعية «مواطنة الدرجات» التى يحتل قمتها المواطن الداعم لأفكار ورؤى وسياسات اليمين الدينى وتحته ودون مساواة فى الحقوق والحريات «الرافضة» من مواطنات ومواطنى الدرجة الثانية بليبرالييهم ويسارهم وقومييهم وبالقطع النساء والأقباط والمنتمون لمذاهب إسلامية غير سنية. والنتيجة الكارثية لانهيار شرعية المساواة المجتمعية والتأسيس «لمواطنة الدرجات»، بجانب هدم أسس البناء الديمقراطى، تتمثل فى فتح أبواب الإقصاء والاستبعاد والعنف الأهلى والرجعية على مصراعيها. ومكونات الرجعية هذه بادية بوضوح فى تردد الليبراليين واليسار فى مواجهة صناعة التطرف وكراهية الآخر القبطى التى تنتج فى مجتمعنا المزيد من العنف والتوترات الطائفية وتهدد مواطنة الحقوق المتساوية بقوة، خوفا من أن يحمل عليهم من قبل ماكينة اليمين الدينى الجاهزة دوما للتكفير والتخوين. مكونات الرجعية هذه بادية بوضوح فى انهيار قدرة الرأى العام المصرى على إدارة نقاش ضرورى حول تحديث قوانين الأحوال الشخصية والأسرة، بل إن ثمة ردة واضحة تدلل عليها المحاولات المتكررة لتغيير قانون الخلع وقوانين حضانة الأطفال الضامنة لحقوق المرأة. مثل هذه الطبيعة الرجعية للحياة السياسية تتعارض مع مسارات بناء الديمقراطية والمواطنة وتداول السلطة وجميعها يعيش على الحيوية المجتمعية المتجاوزة للخطوط الحمراء والبحث المستمر عن الجديد وغير التقليدى والقدرة المتصاعدة على تعميق المساواة فى المجتمع. من جهة ثالثة، يضع التوظيف المتصاعد لثنائية الدين والسياسة الكثير من الحدود والقيود على تمتع المواطنات والمواطنين بحرياتهم الشخصية والعامة، وممارستها فى إطار من العلنية والشفافية والالتزام بمقتضيات الصالح العام. فحرية النساء السافرات فى الوجود فى المساحة العامة والتنقل بين سياقات مهنية وشخصية تقيد على نحو متسارع، وبالتعويل على مزيج ردىء من العنف اللفظى المستند إلى التشكيك فى الالتزام الدينى للمرأة السافرة وتبرير العنف المادى الذى يقع ضدها من جانب عناصر متطرفة أو مريضة. وحرية الممارسة العلنية للشعائر الدينية لأتباع الديانات الوضعية محظورة دستوريا ويقيدها اليمين الدينى فى الواقع العملى، تماما كالحريات الدينية للشيعة الذين يعاديهم يمين دينى مصاب بداء المذهبية. وحرية كل مواطنة ومواطن فى طرح أفكار من خارج صندوق المألوف مجتمعيا، وحريتها وحريته فى تجاوز المنظومات القيمية والأخلاقية التقليدية، وفى البحث عن مضامين أخرى للقيم الإنسانية مقيدة بفعل سيطرة أصحاب الحقيقة المطلقة. والحصيلة هى المزيد من الابتعاد عن أسس البناء الديمقراطى وتحايل على شرعية الحرية المجتمعية التى بدونها لا مواطنة ولا تداول للسلطة.