فى مهرجانات الطبول، لا أحد يتوقف كثيراً أمام «الأنغام» أو التفاصيل، إنها دقات متشابهة، متداخلة، تصم السامعين، «ضجيج منظم» اعتدنا أن نعيشه فى أى احتفال أو «زفة» تضم السيد «الوزير المحافظ».. يكفى أن يبتسم سيادته لتعم حالة البهجة.. أما إذا أنعم علينا بكلمتين، فسترسم كلماته «استراتيجية المستقبل»!. هذا ما حدث فى «التل الكبير» بمحافظة الإسماعيلية، ونحن نتابع خمسة من الوزراء والمحافظين والمسئولين، يزفون إلينا بشرى نجاح زراعة القمح «بالتبريد» التى تحقق جنى محصولين منه فى موسم زراعى واحد. نعم «القمح» أو «قوت الغلابة»، تلك السلعة الاستراتيجية التى نصنفها ضمن أولويات «الأمن القومى»، بعدما تحول عيده إلى طوابير طويلة فى انتظار «لقمة عيش». من حقك -إذن- أن تصدق، أن تحلم بموسمى حصاد يحققان الاكتفاء الذاتى من القمح.. خاصة إذا كانت التجربة «رائدة» سوف تُصنَّف مصر كأول دولة فى العالم تنجح فى ذلك، كما قال الدكتور «محمد عبدالمطلب»، رئيس المركز القومى لبحوث المياه، حتى تأتيك «الصدمة» أو «الصرخة» التى أطلقها الدكتور «محمد المخزنجى» لوقف عملية «خداع المصريين»، وتدمير زراعة القمح فى مصر. بحسب الدكتور «المخزنجى»، فهذه التقنية ليست جديدة أبداً، بل إنها معروفة إلى درجة الفضيحة منذ عام 1928 فى الاتحاد السوفيتى السابق، لا كإنجاز زراعى إيجابى، بل كوصمة دمَّرت الزراعة فى عهد «ستالين».. ما يحتم علينا التدقيق فى تجربة مشكوك فى جدواها الاقتصادية. وبعملية بحث سريعة ستنهال عليك المفاجآت الكاشفة لكمّ «الغش» الذى يتم تسويقه إلينا فى «سوليفان ملون».. بداية ستجد تجربة زراعة القمح بالتبريد ولدت وحيدة، لم تنشر بأى مجلة علمية، ولم تدرسها أى جهة، وأن «وزارة الزراعة»، صاحبة الحق الأصيل فى أبحاث تلك التقنية غائبة تماماً عن المشهد.. بعدما انفردت وزارة «الموارد المائية والرى» بالبحوث والزفة وأضواء الكاميرات واحتمالات الترقية أو التكريم. الرأى القاطع لإمكانية زراعة القمح بالتبريد لموسمين، قاله الخبير الزراعى الدكتور «على إبراهيم»: حيث أوضح أن: (المشكلة تكمن فى كيفية تدبير 6 ملايين فدان، 3 منها فى شهر سبتمبر لزراعة القمح المُبرَّد، ثم 3 أخرى فى شهر فبراير لزراعة النصف الثانى، وهى مساحة تختلف عن المساحة الأولى، حيث لا تصلح زراعة القمح مرتين متتاليتين فى نفس المكان، ولابد من تدبير أرض جديدة، أما المشكلة الثانية فتكمن فى المحاصيل والخضراوات القائمة فى شهر سبتمبر، التى سيحل محلها القمح المُبرَّد، وهى البطاطس وبنجر السكر والقطن والذرة والطماطم والسبانخ والبسلة وبدايات زراعة البرسيم، فهل يُضحّى بهذه الحاصلات الاستراتيجية والمهمة لتدبير عروة جديدة لزراعة القمح)!. إذن، مساحة الأراضى وزراعة المحاصيل الموسمية لا تسمح، فماذا عن الجدوى الاقتصادية وجودة المحصول.. يقول الدكتور نادر نور الدين، أستاذ الأراضى والمياه بكلية الزراعة جامعة القاهرة: (البيانات الصادرة من وزارة الرى تقول إن المحصول المتوقع عن القمح المبرّد يبلغ 10 أرادب للفدان، وهذا يعتبر نصف المحصول المعتاد من زراعات القمح التقليدية فى نهايات نوفمبر وبدايات ديسمبر، التى تُعطى من 18 إلى 20 إردباً للفدان.. ما يعنى أن محصول زراعة القمح لمرتين فى السنة سيعطى نفس المحصول من زراعته لمرة واحدة). أضف إلى ذلك ما قاله الدكتور عبدالعظيم طنطاوى، عضو الفريق الفنى المكلف من مركز البحوث الزراعية لإعداد التقارير العلمية عن قمح التبريد، من أن: (المؤشرات الأولية للمشاهدة تشير إلى تدنى إنتاجية المحصول المزروع بصنف القمح جميزة 11، أما طول السنبلة 4 سنتيمترات، بينما يصل طولها فى الزراعات التقليدية 11 سنتيمتراً، وبلغ طول النبات 40 سنتيمتراً، فيما تبلغ فى الزراعات التقديرية 100 سنتيمتر). نحن -إذن- أمام عملية «دجل سياسى» تؤكد أن «البحث العلمى» هو «الفريضة الغائبة» فى مصر، وأن بعض المسئولين لا يتعامل بالحكمة المطلوبة مع «الرأى العام»، ويلجأ إلى دغدغة مشاعر الناس بأى وسيلة. والسؤال الآن: إن لم يكن هناك قانون يحاسب الوزير على خداع الشعب، والمضى، (بقصد أو عن جهل)، فى مشروع قد يكلفنا تدمير أهم الزراعات المصرية.. فهل يصحح «التغيير الوزارى» المرتقب هذا المشهد المرتبك؟. للأسف نحن نعيد إنتاج تجاربنا الفاشلة بنفس الآليات، وننتظر أن تتغير النتائج، نختار «أهل الثقة» ونستبعد «أهل الخبرة»، نفضل من يلتزم ب«قانون الطاعة» ونرفض من يطرح رؤية جديدة.. نجمل حتى الأخطاء اللغوية لأى وزير، و(نأيف الوزارة على مقاسه)!. وبداخل كل وزارة أو هيئة أو مؤسسة ستجد آلاف الموظفين جاهزين بالمبايعة والأشعار، ونثر الورد فى طريق «سعادته»، ولن يحاسبه أحد -بعد خروجه- على فشله أو ديكتاتوريته أو حتى فساده.. فلا تنتظر معاقبة من أخطأ فى مهزلة اكتشاف تقنية زراعة القمح بالتبريد.. وتعامل مع الفضيحة، كما اعتدت بالستر!.