مع احتدام المنافسة فى انتخابات الرئاسة المصرية يتذكر الجميع أن موقف مؤسسة الرئاسة المصرية من الولاياتالمتحدة وكذا موقف الأخيرة تجاه تلك المؤسسة كان من ثوابت المعادلة السياسية المصرية الداخلية طيلة عهد حسنى مبارك. وهو ما يجعل من طرح تأثير السياسة الأمريكية وتوجهاتها فى عملية اختيار الرئيس القادم قضية محل تناول. ولأن التفكير العلمى يقتضى حسب مقولة الفيلسوف البريطانى الشهير «ألفريد وايتهد» استنباط ما هو عام وشامل مما هو خاص ونوعى، فإن عملية اختيار الرئيس فى مصر وما يتواكب معها من تضاغطات إقليمية ودولية لا يمكن أن تنفصل بشكل أو آخر عن السياقات العامة التى تحكم بنية النظام السياسى المصرى فى أعقاب ثورة 25 يناير، فتغير تلك السياقات سوف يسهم بالتأكيد فى تراجع ذلك التأثير الأمريكى على عملية اختيار الرئيس فى مصر لثلاثة أسباب: أولها: تغير بنية ونمط النظام السياسى المصرى فى أعقاب الثورة من نظام تقليدى تسلطى يرسم شبكة تحالفاته ومصالحه وفقاً لنمط فوقى ونخبوى يخدم جماعة الحكم وحدها إلى نظام ديمقراطى مدنى ترتبط شرعية وجوده بمدى رضا الجماهير وقبولها له. وسوف يؤدى هذا بالتبعية إلى أن تكون مصالح هذا النظام الجديد وتحالفاته وعلاقاته بالعالم الخارجى، والإدارة الأمريكية تحديداً، مرتبطة بشكل مباشر بطبيعة البنية الاجتماعية وتوجهات الرأى العام المصرى، أى إن موقف الرئيس القادم من أمريكا سيكون مرهوناً بعوامل الداخل بعكس الموقف قبل الثورة حين كانت استمرارية النظام وشرعيته فى الداخل مرتبطة بالرضا الأمريكى. ثانيها: تجاوز الوضع السياسى المصرى للسيناريوهات المرسومة سلفاً من قبل الإدارة الأمريكية، فمع فوز جماعة الإخوان المسلمين ب 88 مقعداً فى انتخابات 2005، بدت دوائر صنع القرار القريبة الصلة بالإدارة الأمريكية متخوفة من دعم الولاياتالمتحدة لعملية تحول ديمقراطى سريع فى مصر قد تفضى إلى وصول قوى معادية للمصالح الأمريكية إلى الحكم، وخصوصاً فى ظل تراجع القوى المدنية والليبرالية. وبناءً على تلك التحفظات رجحت الإدارة الأمريكية سيناريو التغير التدريجى البطىء فى مصر. لكن اندلاع ثورة يناير أربك تلك الحسابات الأمريكية لأن عملية التحول الديمقراطى فى مصر أتت عبر فعل ثورى راديكالى حركته الإرادة الشعبية، وبالتالى يفترض أن النظام السياسى المتمخض عنها سيأتى خارج سياق تلك التوقعات والطموحات الأمريكية، وهو ما يعنى تقلص قدرة الإدارة الأمريكية على التحكم فى العملية السياسية المصرية بشكل كبير. وثالثها: التراجع المفترض لموقع الأيديولوجيا فى خطاب النخبة السياسية المصرية فى أعقاب الثورة. فالموقف من أمريكا والغرب ينبنى فى خطاب النخبة على موقفين أيديولوجيين متناقضين: موقف الإسلاميين الذى يغذى مبدأ الصراع مع الغرب، وموقف قطاع عريض من التيارات المدنية التى تسعى إلى الانفتاح على الغرب انطلاقاً من خطابها المدنى الحداثى. إلا أن المناخ السياسى الجديد الذى ستفرضه ثورة يناير سيؤدى بكل تأكيد إلى انفكاك تلك القوى من أسر خطاباتها الأيديولوجية التقليدية، وما يمكن أن تفرضه من ولاءات وعداءات، لاسيما أن ثورة يناير لم ترتهن لحساب أيديولوجيا بعينها بل إنها مثلت مرحلة اختمار ثورى لحالة الغضب الاجتماعى التى سبقتها وتجسدت فى مئات من التظاهرات الفئوية التى اندلعت فى مصر منذ عام 2005. ومن ثم فإن نجاح أى تيار سياسى فى مصر فى الفوز بالأغلبية عبر صناديق الاقتراع فى انتخابات الرئاسة أو البرلمان لن يكون مرهوناً بسحر الأيديولوجيا بقدر ما سيكون مرهوناً بقدرة هذا التيار على علاج الأزمات التى تمخضت عن هذا الواقع الاجتماعى الردىء. وربما يفضى هذا التراجع لموقع الأيديولوجيا فى خطاب النخبة إلى حالة من الارتباك وضبابية الرؤية بالنسبة للنخب وجماعات الحكم فى أمريكا، والتى اعتمدت دائماً على فكرتى الحليف الواضح الممثل فى القوى الليبرالية والعدو الواضح الممثل فى الإسلاميين، فى بناء موقفها من الأوضاع السياسية الداخلية فى مصر. إن هذه الأسباب الثلاثة تعنى فى النهاية أن تراجع التأثير الأمريكى على العملية السياسية فى مصر، وفى القلب منها عملية اختيار الرئيس، هو أمر حتمى الحدوث ولن يؤثر بالتالى على خيارات الشعب المصرى وقواه السياسية.