باستثناء عدد محدود من المراكز البحثية المعروفة، لا تعرف مصر استطلاعات لقياس الرأى العام ذات مصداقية يُعتد بها. أصبحت هذه القياسات علماً دقيقاً له شروط وضوابط منهجية قاسية ينبغى الالتزام بها، تعتمد سمعة المراكز العالمية على الحياد -خاصة السياسى- وانضباط الإجراءات العلمية. خلال الفترة السابقة على الانتخابات الرئاسية الأخيرة عرفت مصر فوضى فى استطلاعات «بير السلم» التى تجاسر على إجرائها كل من هب ودب من الجهات غير المحايدة سياسياً وغير المؤهلة علمياً. تلقت تلك الاستطلاعات ضربة قاسية بعد ظهور نتائج المرحلة الأولى للانتخابات، التى جاءت مخالفة لكل التوقعات بأن عمرو موسى وعبدالمنعم أبوالفتوح يتبادلان المواقع على القمة «كتفاً بكتف»، من استطلاع لآخر. الأهم أن هذه الصدمة ذاتها طالت أيضاً المراكز البحثية المصرية الراسخة ذات المصداقية، التى كانت قد شاركت استطلاعات «بير السلم» التوقعات نفسها، وهو ما أكد حينها أن الرأى العام بعد الثورة غير مستقر، بل إنه يمر بفترة يعيد فيها تكوين اتجاهاته وميوله وخياراته بشكل جذرى. هذه الحالة لا تزال مستمرة حتى الآن، بسبب الانفتاح الكبير الذى طرأ على السياسة بعد اختفاء سلطة مبارك التى كانت تحرم الرأى العام من فرصة الحكم على مدى التزام الأحزاب والقوى السياسية بالمسئولية الوطنية وعلى كفاءتها فى الإدارة السياسية سواء فى المعارضة أو فى الحكم. منذ شهرين قرر حزب مصر القوية اقتحام المجال بأول استطلاع؛ كانت أهم نتائجه أن 90% من المواطنين غير راضين عن أداء رئيس الوزراء. بعد تقصى الأمر، اتضح أن عدد الذين تم سؤالهم لم يتجاوز 192 مواطناً، وأنهم جميعاً من سكان منطقة واحدة هى حدائق القبة فى القاهرة، وهو ما يخالف الضوابط المنهجية المتعارف عليها. ومنذ أيام أعلنت مصادر إخوانية فى الجماعة والحزب أنه تم تكليف كل الأعضاء (عدة مئات من الآلاف) بالمشاركة فى تنفيذ أكبر عملية لقياس «نبض الشارع بدقة» حول شعبية الإخوان والرئيس. يعتمد القياس على تقارير يرفعها الأعضاء حول «ما يسمعونه من زملاء عملهم وأقاربهم»، وهو مخالف للضوابط أيضاً! من حق كل حزب «جس نبض الشارع» لمساعدته فى اتخاذ قراراته، شرط عدم التلميح ل«قياس الرأى العام» الذى يوحى بنوع من الحجية العلمية، وهو ما يعد نوعاً من التدليس على المواطن. لا يحق لأحد الخلط بين «جس النبض» وهو شأن خاص وبين «قياس الرأى» الذى هو شأن وطنى عام له ضوابطه. قبل فترة، أصرت الرئاسة على وضع واحد من «أهل الثقة» وهو د. ياسر على على قمة مركز معلومات مجلس الوزراء، هل يتناقض هذا الاختيار مع الهدف الذى أعلنه د. ياسر نفسه؛ أن يصبح المركز موقعاً وطنياً محايداً بين كل التيارات السياسية؟ يستدعى تحقيق هذا الهدف المبادرة بتشكيل مجلس وطنى من الشخصيات العامة محل الثقة والخبراء فى المجال، لتأكيد حق المصريين من كل الاتجاهات فى إجراء الاستطلاعات دون احتكار الدولة والحكومة والحزب الحاكم لها، ووضع ميثاق أخلاقى ومدونة بالضوابط المنهجية التى ينبغى أن تلتزم بها كل المراكز البحثية العاملة فى هذا المجال الحساس مستقبلاً.