فقه الدنيا حق لجميع أهلها، بحيث لا يعتلى أحد على أحد باسم الدين، فكل عاقل له حق الفهم بما يقنعه ويريح قلبه، وحق الاختيار بما يُرضيه ويمنعه من تبعية من يساوسه فى الخلق. ويمكن للناس فى الجملة أن تتوافق على قول، أو ينزل بعضهم عن قوله إلى قول بعض، بإرادته، أو يحمل بعضهم على غير قوله بأى اسم إنسانى كالديمقراطية أو الديكتاتورية، وليس باسم الدين الذى يمنع أن يُتخذ ذريعة لسوق الناس، ويأبى أن يكون أداة فى يد من ينصّب نفسه وصياً على الآخرين وكأنه يستدعى بعض أحكام الآخرة ليقوم نيابة عن الله بها فى الدنيا. ومن تلك الأحكام زعمه معرفة الحق المطلق فى الأحكام الفقهية، ووصفه القول المخالف بأنه ضعيف أو شاذ؛ ليبقى هو صاحب التوكيل الدينى الذى يلجأ إليه العابدون. وقد ذكرنا من قبل أن الفقهاء المخلصين قد تصدُّوا لهذا الشرك الجاهلى المعاصر بأدلة كثيرة وعدنا بذكر ثلاثة منها. وذكرنا الدليل الأول الذى يتلخّص فى تأسيس النبى صلى الله عليه وسلم، مبدأ التعدُّدية الفقهية فى عصره؛ لتتسع صدور الناس لاختلاف بعض. أما الدليل الثانى فهو إعلاء أهل العلم من السلف الصالح، وهم الأعرف بمقاصد الشرع، مبدأ التعدُّدية الفقهية، وجعلها سمة من سمات الإسلام التكريمية بما يستوجب على الفقيه أو المبتدئ عدم الإنكار على من يخالفه القول، وعدم التشنيع عليه بأنه شاذ؛ لأن هذا الوصف لا يراه إلا صاحب الإنكار، وليس وصفاً فى الحقيقة ونفس الأمر. ونذكر بعد بعض أقوال هؤلاء السلف، التى أوردها ابن عبدالبر فى كتابه «جامع بيان العلم وفضله» لعلها تردع من نصّبوا أنفسهم أوصياء فى الدين، أو تعالج المرضى المقلّدين من تبعيتهم العمياء؛ ليتعافوا بالرُّشد والاستقلال قبل فوات الأوان الذى يعلن فيه حكم الآخرة بقول الله: «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ» (البقرة: 166 - 167). (1) قال عمر بن عبدالعزيز: ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولاً واحداً كان الناس فى ضيق. وأنهم أئمة يُقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان فى سعة. (2) قال القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق: لقد أوسع الله على الناس باختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. أى ذلك أخذت به لم يكن فى نفسك منه شىء. (3) قال أحمد بن حنبل، وقد سُئل فى اختلاف الصحابة، هل يجوز لنا أن ننظر فى أقوالهم لنعلم مع من الصواب منهم فنتبعه؟ فقال: لا يجوز هذا النظر. بل تُقلِّد أيهم أحببت. (4) قال مجاهد، كما قال الحكم بن عتيبة: ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبى صلى الله عليه وسلم. (5) قال يحيى بن سعيد: ما برح أولو الفتوى يفتون فيحل هذا ويحرم هذا. فلا يرى المحرِّم أن المحلِّل هلك لتحليله، ولا يرى المحل أن المحرّم هلك لتحريمه. (6) قال الشعبى: اجتمعنا عند ابن هبيرة فى جماعة من قراء أهل الكوفة والبصرة، فجعل يسأل محمد بن سيرين؟ فيقول له: قال فلان كذا، وقال فلان كذا، وقال فلان كذا. فقال ابن هبيرة: قد أخبرتنى عن غير واحد فأى قول آخذ؟ قال: اختر لنفسك. وللحديث بقية. لمتابعة المقالات السابقة: فقه الدنيا وأحكام الآخرة (5) فقه الدنيا وأحكام الآخرة (4) فقه الدنيا وأحكام الآخرة (3) فقه الدنيا وأحكام الآخرة (2) فقه الدنيا وأحكام الآخرة (1)