ويتأكد من جديد معنى التفرقة بين أمور الدين وأمور الدنيا أو الدولة، عندما نراجع آية الطاعة فى القرآن الكريم التى تقول: «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم». فطاعة الله ورسوله هى الدين الخالص، أما طاعة أولى الأمر فليست كذلك بحال من الأحوال، إذ ترتبط بالتقييم البشرى لأداء ولى الأمر، وينتج عن التقييم إما قبول أو رفض مستوى أدائه، والقبول يعنى الطاعة، أما الرفض فيعنى عدم الطاعة له. ويحكى ابن كثير -فى تفسيره- سبب نزول هذه الآية قصة ملفتة يقول فيها: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار، فلما خرجوا وجد عليهم (أى تضايق منهم) فى شىء، فقال لهم: أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعونى؟ قالوا بلى. قال: فاجمعوا لى حطباً. ثم دعا بنار فأضرمها فيها ثم قال: عزمت عليكم لتدخلنها. فقال لهم شاب منهم إنما فررتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها، فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال لهم: «لو دخلتموها ما خرجتم منها أبداً إنما الطاعة فى المعروف». وهذه القصة التى يستشهد بها «ابن كثير» فى تفسير الآية الكريمة واضحة الدلالة على التفرقة بين طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن ما يأمر به هو من صميم الدين، وطاعة ولاة الأمر التى ينبغى أن تتأسس على أسباب مقنعة، وإلا فسد أمر الناس، وساءت أحوالهم. ولعل أكبر دليل على ذلك هو أن تاريخ الخروج على الحكام فى تاريخ الإسلام أكثر طولاً وأشد عرضاً وأوغل عمقاً من تاريخ الطاعة، فقد خرج العرب جميعاً على أبى بكر، فيما أُطلق عليه تاريخياً حروب الردة، حتى لم يبق على الإسلام، كما روت السيدة عائشة رضى الله عنها، سوى أهل القريتين: مكةوالمدينة، وخرج الصنّاع (العمال) على عمر بن الخطاب رضى الله عنه. والصناع هى تلك الطائفة من «العلوج» الذين عاشوا على حدود المدينةالمنورة، واستشهد عمر بن الخطاب على يد واحد منهم، هو أبولؤلؤة المجوسى، وخرج على عثمان بن عفان رضى الله عنه جمهرة من المسلمين، من مصر والكوفة واليمن، وانتهى الأمر باغتياله أيضاً، والأمر نفسه تكرر مع على بن أبى طالب رضى الله عنه حين خرج عليه معاوية، ثم الخوارج، وعلى معاوية خرج «الخوارج»، وعلى يزيد خرج الحسين بن على، وعبدالله بن الزبير. وكأن تاريخنا سوّاه الله من تمرد. وكلمة السر فى ذلك هى فكرة: «الإسلام دين ودولة». مقالات سابقة: الإسلام دين وليس دولة (2) الإسلام دين وليس دولة (1)