فى الأنظمة السياسية الديمقراطية تسود علاقة ودية بين أنظمة الحكم التى تمارس السلطة وبين المعارضة التى تقف لها بالمرصاد تحاسب وتراقب وتشارك أحياناً، فالمعارضة جزء أساسى من العملية الديمقراطية حيث تمثل عاصماً للسلطة من أن تسير إلى الإطلاق والاستبداد، ففى هذه الأنظمة لا يكون الحكم ميزة شخصية للحاكم بقدر ما هو مسئولية يتحسس ضرورة أدائها بهمة ونشاط لصالح الشعب وفى إطار قيم النظم الديمقراطية من الحرص على الشفافية فى ممارسة السلطة وفى السعى لمصلحة الشعب، مع الإيمان التام بقيم تداول السلطة ونزاهة العملية الانتخابية وحرمة المال العام وعدم استخدام مقدرات السلطة والحكم لمصالح حزبية ضيقة تؤدى إلى قتل حرية المنافسة وإهدار مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة. على أن ما يحدث فى نظم الحكم المستبدة أمر آخر تماماً، فقد حرصت هذه الأنظمة على صنع معارضة لتزيين وجه الاستبداد، وهو ما يُعرف فى الأدبيات السياسية ب«المعارضة المستأنسة» التى يستعرضها الحاكم فى المناسبات السياسية الكبرى كما يستعرض حرس الشرف. هذه المعارضة كان سقف مطالبها وأحلامها هو المشاركة فى نظام الحكم من خلال لملمة بعض منافع الحكم التى يسمح بها هذا النظام المستبد. هذه الإشكالية هى التى حكمت تصرفات كثير من أحزاب المعارضة فى مصر التى وجدت فى الساحة السياسية قبل ثورة 25 يناير، حيث كانت هذه المعارضة غير قادرة على مجرد الحلم بأنها يمكن أن تنتقل يوماً من خانة المعارضة إلى مربع الحكم، فالحكومة والحكم كانا مناطق محظورة على هذه الأحزاب أو الكيانات التى تعارض هذا النظام، وهو الأمر الذى يفسر دائماً عدم اصطدام هذه المعارضة برأس السلطة فى مصر. ولعل ذلك تجلى يوم حدثت الثورة، ففى حين كان شباب الثورة يهتفون بسقوط رأس النظام كان بعض السياسيين يرون فى ذلك خروجاً على النص ومساساً بذات الرئيس التى يجب أن تصان ولا تهان. ولعل هذا الفكر وهذه النظرة هما ما يبرر احتضان قانون العقوبات بين طياته ما يُعرف بجريمة إهانة الرئيس حتى الآن، فالمعارضة يجب ألا تتجاوز الخط الأحمر (الرئيس). هذا ما كان وهو أيضاً ما زال معمولاً به والذى تجاهد من أجل تأصيله وتسويقه واستمرار العمل به مؤسسة الرئاسة بعد الثورة، حيث ما يزال استخدامها المفرط فى ترويع الإعلاميين والصحفيين بدعوى ارتكابهم هذه الجريمة. هذه المعارضة التى كانت تعمل فى إطار نظام مسقوف فى حده الأقصى بمشاغبة الحكومة دون المساس بذات الرئيس ورثت فى داخلها عبقرية المداهنة والملاينة لنظام الحكم أياً كان، فقد برعت فى أن تعيش دائماً على هامش النظام لا تبتغى أبداً الاندفاع إلى غاية يتم من خلالها تداول السلطة بين الحكم والمعارضة. على أن الأمر قد اختلف بعد الثورة، فقد وجدت المعارضة نفسها، ولأول مرة، محاطة بإطار شعبى للعمل السياسى ما زال الشعب فيه حياً وثائراً لم يرتض الأطر التى صُنعت بعد الثورة لممارسة السلطة وطمع فى تغيير جدى وثورى لهذه السلطة تحقيقاً لأهداف الثورة فى الحرية والعيش والكرامة والعدالة الاجتماعية. فقد وجد هذا الشعب نفسه أمام حكومة عاجزة ونظام فاشل وكذلك معارضة فاشلة بكل المقاييس، فحالة التوهان التى يغرق فيها الحكم هى نفسها حالة التوهان التى تغرق فيها المعارضة. وجد الشعب أن خطاب المعارضة وخطاب الحكم متكاملان من حيث الابتعاد عن تحقيق أحلام وأهداف ثورته. وكان من الواجب على السلطة والمعارضة أن يتجها إلى حل هذه الإشكالية والاتفاق على برنامج سياسى يحقق أهداف الثورة وهو أمر لم يحدث على الإطلاق. ولعل هذا الفشل الذريع الذى صادف المعارضة، ومن قبلها الحكم، هو الذى يبرر اتجاه البعض للبحث عن حلول خطرة كالانقلاب العسكرى أو تدخل الجيش. إن مجرد تفكير البعض فى هذا الحل هو تأكيد لفشل الحكم وفشل المعارضة السياسية المدنية، وهو حل، فضلاً عن خطورته، فإنه فى ظنى غير ممكن عملاً بما سبق أن بيناه فى مقالنا الأسبوع الماضى، ولكن يبقى ضرورة وجود دور للجيش فى إطار حماية الجيش لمقومات الدولة المصرية فى حدها الأدنى من الانهيار والذهاب إلى فكرة الاحتراب والتقاتل والفتنة، فهنا يكون تدخل الجيش واجباً وطنياً لا يمكن أن يقف ضده أحد. فإذا كان هذا الواقع الذى يعيشه الحكم والمعارضة، فهو واقع محاط بأزمة مستحكمة بكل المقاييس، فكلاهما يرى أنه يحتكر الحق والحقيقة ويقف من موقعة على منصة لإطلاق صواريخ الاتهام والتخوين وتحميل كل طرف مسئولية الانهيار السياسى والاقتصادى والاجتماعى الحاصل فى الدولة المصرية. فنظام الحكم يرى فى المعارضة الممثلة أساساً فى جبهة الإنقاذ جبهة الخراب وتسويق العنف وتخليقه فى ميادين مصر وشوارعها. والجبهة ومن والاها ترى أن حكم الجماعة وحكومتها ورئيسها هو حكم استئثارى يسعى إلى الانفراد بالسلطة والاستئثار بها وممارستهما لمصلحته وليس لمصلحة الوطن وفق آليات حكم وسلطة ترى ضرورة تفكيك مؤسسات الدولة وإعادة تخليقها مرة أخرى حتى تصبح الدولة المصرية ذات طبعة إخوانية تعمل لصالح الجماعة ومشروعها الذى ظلت تحلم به منذ ما يزيد على ثمانية عقود كان فيها سعى الجماعة نحو تحقيق هذا المشروع بين الهاجس والحلم والكابوس. الآن ترى الجماعة أنها تسير بخطوات ثابتة نحو إقامة دولة الإخوان. وفق هذا الإطار الواقعى الذى تمارس فيه السلطة فى مصر نشأت الأزمة وتعقدت وأوشكت أن تنغلق دون حل يمكن أن ينقذ البلاد والعباد من انهيار حقيقى سوف يطال الجميع حكومة ومعارضة وسوف يقاسى منه الشعب الأمرّين. ومن هنا نخلص إلى أن أطراف اللعبة السياسية فى مصر مخطئون، وجميع اللاعبين فى الملعب السياسى يتحملون ضياع الفرصة التى لاحت لمصر بعد الثورة فى بناء نظام ديمقراطى تتحقق فيه أهداف الثورة وآمالها فى الحرية والعيش الكريم والعدالة الاجتماعية. قد تختلف التبعات، وقد تختلف الأدوار بين السيئ والأسوأ. قد يختلف قدر وحجم المسئوليات لكل طرف، ولكن الكل مدان ويتحمل جزءاً أساسياً من تعقيد الأزمة وتطورها بسرعة كبيرة نحو نقطة اللاعودة أو اللاحل، والتى تؤدى حتماً إلى انهيار الدولة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. على أن المشهد المعقد والأزمة المستحكمة على النحو الذى بيّناه فى حقيقة الأمر لا يمكن أن يغلق الباب أمام طرح الحلول لعل أطراف الأزمة والمشكلة يعودون إلى رشدهم ويكون لديهم استعداد لحل الأزمة على أسس سليمة تبدأ أولاً ببناء جسور الثقة بين الحكم والمعارضة، فكلاهما جناحان لسلطة واحدة لا تستقيم ممارستها إلا بدوران آلة حكم ديمقراطى يحترم وجود هذا وذاك، ويتصور أن السلطة قد تُتداول بينهما فيصبح الحكم فى المعارضة وتصبح المعارضة حاكمة يوماً ما. إن هذا الحل لا يمكن أن تنفتح أبوابه إلا عبر طاولة حوار وطنى جامع وفقاً لأجندة وطنية علنية تخلص إلى نتائج يلتزم بها أطراف العملية السياسية. يتم بناء على هذا الحوار تغيير نمط ممارسة السلطة وتغيير نمط خطابها، ويتم من خلالها وجوب اتخاذ إجراءات جدية تكفل تغيير الصورة الذهنية التى تتأصل كل يوم فى واقع المصريين نحو استئثار الجماعة بالسلطة وتسخيرها لمصلحتها ولإتمام مشروعها الذى هو فى ذاته غير قابل للتطبيق على أرض الواقع. فما كان يقال بين دفات الكتب أو فى حلقات الدرس ليس صالحاً فى كل الأحوال لكى يقيم دولة أو يبنى مجتمعاً. بغير ذلك فإن على المعارضة السياسية لهذا النظام أن تطرح بدائل سياسية واقتصادية لممارسة السلطة تقوم على أسس ديمقراطية ووطنية. إن مصر فى هذه المرحلة التعيسة من تاريخها تمر بأصعب وأدق ظرف تاريخى يتهدد الوطن كله فى وحدته وبنياته وأسس نهضته. بما يستدعى فى الحقيقة سعياً دءوباً من الجميع نحو إنكار الذات والخروج من نفق الأزمة التى تتعقد يوماً بعد يوم، ففى الحالة الراهنة لم يعد الحكم فى مصر مغنماً ولا مطمعاً لأحد لكثرة أعبائه وخطورة مشاكله. وعلى الجميع أن يتكاتف للذهاب بالدولة والمجتمع نحو نظام ديمقراطى تُتداول فيه السلطات وتتحقق فيه العدالة الاجتماعية، بغير ذلك فإننا نذهب بأيدينا إلى طوفان لن يبقى ولن يذر. ويومها لا ينفع اللوم أو الحسرة. اللهم احمِ مصر من ألاعيب الساسة والسياسة واكتب لها الخير حيث كان.