اعتادت أن تقول دائماً إن صاحب القوة الحقيقية لا يضطر أن يستعرض قوته أمام الناس، كما أن المرأة الراقية لا تضطر أن تعلن للناس أنها كذلك. فبالنسبة لمارجريت تاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا السابقة، كان الرقى والقوة دائماً وجهين لعملة واحدة. كانت تعرف كيف ترسم لنفسها صورة فى خيال الناس، بأناقتها الإنجليزية التى تتناسب مع تفاصيلها، وملامحها التى لم تفقد لمسة ما من النعومة على قسوتها ومشاق عملها، كانت تجلس وسط كبار رؤساء وزعماء العالم جامدة الملامح كممثلة لواحدة من أعرق الإمبراطوريات، فى الوقت الذى تحيط فيه صلابتها بقفاز مخملى من الرقى ينتزع الإعجاب من أكثر رؤساء العالم تزمتاً، ويقف بالغضب عندما يشتد عند الحد اللازم له. كانت «تاتشر» امتداداً لسلسلة طويلة من الرموز النسائية التى حكمت تاريخ بريطانيا، ارتفعت معها أعناق الشعوب عندما أشارت إلى السماء، وابتسم من حولها الجنود البريطانيون، وهى تقف وسطهم متجهمة، ترتدى ثوباً أحمر وقبعة أنيقة من نفس اللون، لتعلن للعالم كله أن بريطانيا لن تتنازل عن جزر «فوكلاند» التى كانت تتنازع عليها مع الأرجنتين. كان أصحاب «الستار الحديدى»، السوفيت، هم مَن أطلق عليها لقب «المرأة الحديدية»، بعد أن ألقت خطبة تضمنت هجوماً عنيفاً على الاتحاد السوفيتى، وصار الناس يتذكرون اللقب فى كل مرة تخوض فيها «تاتشر» حرباً عنيفة ضد حزب العمال المنافس لحزبها، أو النقابات التى تقاوم إجراءاتها الإصلاحية فى الاقتصاد. أثبتت «تاتشر» أنها أكثر صلابة من أشد الرجال، ليقول عنها البعض إنها أفضل شىء حدث لبريطانيا منذ إن وجدت على الخريطة، ويقول آخرون إن حكمها كان أقرب شىء عرفته بريطانيا لحكم الديكتاتور. أقوى رئيسة وزراء فى العالم، كانت ابنة لأسرة بسيطة، يملك أهلها محل بقالة، وتدرجت حتى حملت لقب «بارونة» بعد أن انضمت لمجلس اللوردات البريطانى. ومن مدرستها المحلية المتواضعة نالت منحة دراسية فى جامعة أوكسفورد العريقة، وهى التى بدأت منها مشوارها السياسى ولقاءاتها بقيادات حزب المحافظين البريطانى الذى دخلت منه إلى البرلمان فيما بعد عام 1959، ليصبح لها تأثير كبير فى الحزب المعارض وقتها. وعندما وصل المحافظون للسلطة تولت «تاتشر» وزارة التعليم عام 1970، لتبدأ قراراتها التى أثارت ضدها عاصفة من الانتقادات؛ لأنها كانت ترى أن الخسائر قصيرة الأمد أمر لا بد منه من أجل الإصلاح العام. ومنعت مرة توزيع الحليب المجانى على أطفال المدارس، للحد من النفقات، لتصفها المعارضة متهكمة ب«سارقة الحليب». لكن، كل ذلك لم يمنع «تاتشر» من أن تصبح أطول رئيسة وزراء فى عمر بريطانيا، قبل أن تسقط أمام آخر خصومها: الاتحاد الأوروبى، الذى كانت تقاوم هى اندماج بريطانيا فيه، فى الوقت الذى يحتم فيه مسار التاريخ أن تتحد معه، لينتهى بذلك عهد «المرأة الحديدية»، ويبدأ عهد «الاتحاد الحديدى» فى أوروبا.