بمعايير المصريين الآن، أنا إنسان غير سَوىّ. ولازم أعترف أمام حضراتكم هذا الاعتراف الهام: أنا غير قادر على أن أكره أى مصرى لدرجة الغل لمجرد أنه لا يوافقنى حزبياً أو أيديولوجياً. أقدر طبعاً أميز الاستبداد وأقاومه، وأقدر أميز الظلم وأحاربه، ولكن هذا لا يجعلنى أبداً أساوى بين أى تصنيف أيديولوجى واتهامات بالخيانة والعمالة لدولة أجنبية إلا بدليل واضح أكون على يقين منه، وهذا ما يجعلنى لا أستطيع تصديق الكلام السيار وقطعاً لا أشارك فى اختلاق أدلة لإثبات أن الطرف الليبرالى / العلمانى عميل للأمريكان أو أن الطرف المحافظ دينياً عميل لإيران. أعلم أن المصالح تتصالح، ولكن هل أى التقاء فى المصالح يعنى خيانة؟ لذلك أعترف أننى لا أحمل هذا الكمّ من الحقد والغل لأى فصيل، ولهذا لا أشعر أننى من الأسوياء فى مصر. يبدو لى أن من التحق بجماعة الإخوان المسلمين وخرج منها تكون عنده مشاعر سلبية شديدة ضدهم؛ أتفهمها ولكن هى قطعاً ليست عندى، فأنا لا دخلت ولا خرجت. ويبدو لى أن من وعده الإخوان بمنصب أو مقعد ولم يلتزموا معه، تكون عنده مشاعر سلبية شديدة ضدهم؛ أتفهمها ولكن هى قطعاً ليست عندى، فأنا لا وُعدت ولا أريد وعوداً من أحد. ويبدو لى أن من أبرم اتفاقاً مع الإخوان ونكصوا عنه بالفظاظة المعهودة من بعض قياداتهم، تكون عنده مشاعر سلبية شديدة ضدهم، أتفهمها ولكن هى قطعاً ليست عندى، فأنا بعيد عن هذه الاتفاقات أصلاً. ولكن المعضلة أن هذه المشاعر السلبية تداخلت وتفاعلت عند كثيرين، على مستوى النخبة وقطاع من الجماهير جعلتنا فى الحد الأدنى الممكن للثقة المجتمعية، وهذه معضلة كبرى لمن يزعم أنه يريد أن يعمل «نهضة» فى البلد، هذه نهضة ليست بالتعاون مع المجتمع، ولكنها نهضة رغماً عن أنف المجتمع، لذا هى نهضة لن تحدث فى النهاية. أحد الأصدقاء الذين أعرفهم من زمان حكى لى واقعة ترتبط بأنه بدأ يتصرف ويتكلم ضد صالح الإخوان حتى لو كان ضد مصلحة الدولة، وأنه دخل فى حالة من الرفض حتى لقبول فكرة أن يأتى من أى منهم أى خير حقيقى، إلى أن قرأ مقالاً سابقاً لى تحدثت فيه عن تعريف «بولماركوس» الخاطئ للعدل الذى رفضه «أفلاطون»، بأن العدل هو أن أفعل الخير لأصدقائى وأن أفعل الشر لأعدائى. وكانت ملاحظتى أن هذا التعريف أقرب لمعنى السياسة. ولهذا من الممكن أن يتبنى أحدنا موقفاً سياسياً ويجد له تبريراً حزبياً أو أيديولوجياً ولكنه قد يعترف أنه ليس بالضرورة موقفاً عادلاً. ولكننا وصلنا إلى نقطة أننا نحول مواقفنا السياسية والحزبية والأيديولوجية للمرادف الموضوعى لقيم الحق والعدل والخير والوطنية وأن كل من يخالفنا فهو باطل ظالم شرير خائن. قال صديقى، بعد قراءة هذا المقال، إنه اكتشف أنه أصبح هكذا بالفعل وضرب لى مثلاً بواقعة حدثت معه كان فيها خير لمصر ولكن كان هذا يتطلب موافقة مسئول إخوانى كبير فى الدولة، فتردد فى تمريرها إلى أن ضاعت على البلد. وأنبه ضميره، ولكنه كما قال: «أعمته كراهية الإخوان عن حب البلد». قلت له: إن التشبيه الذى يحضرنى بأن يشجع بعض المصريين فريقاً أجنبياً يلعب مع نادٍ مصرى لأنهم لا يحبون الخير للفريق المصرى بسبب سلوك الجماهير التى تدخل فى حالة من الحرب الإعلامية والتشجيعية التى يشنونها ضد بعضهم البعض وتضيع مصلحة البلد. يقول صديقى: «أحسدك على نعمة العقل فى وسط كل هذا الجنان»، فكان ردى أننى أحياناً أشعر بالضيق من أننى وكأننى أخاطب شريحة قليلة جداً من المصريين الذين لم يشربوا من نهر التعصب والعصبية والعصاب. وأسأل أحياناً: لماذا أظل فى مصر وكل ما أستطيعه هو أن أتلقى الطعنات اللفظية من الطرفين؟ هل ينبغى أن أشرب أنا الآخر من نهر الجنون حتى أحيا حياة سوية فى مجتمع غير سوى؟ مع الأسف، نحن ندمر بعضنا البعض، ونحن لا ندرك أننا مصر: أنت وأنا. مصر هى أخى المسيحى وأختى اليسارية وخالى السلفى وعمتى الإخوانية وجارى الليبرالى وهكذا. لكننا لا ندرك ذلك: إذن تعازينا منا فينا.