السيد الرئيس.. دعنى أقصّ عليك مما سطره التاريخ.. بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى أعلن الدكتور ويلسون رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية أربعة عشر من المبادئ التى اعتُبرت وقتها بمثابة ميثاق أو دستور عالمى لكل الأمم حتى يتحقق العدل والسلام، وأعلن هذه المبادئ فى خطبه العديدة منادياً إلى قواعد جديدة فى حكم الشعوب وتقرير العدل العالمى.. إذ نادى بحرية الشعوب كبيرها وصغيرها و«الاعتراف بحقها فى تقرير مصيرها».. وقال فى خطبته أمام مجلس الشيوخ الأمريكى فى يناير 1917: «لا يصح لأمة أن تكره أمة أخرى على اتباع سياستها، وإنما يجب أن يُترك لكل شعب الحق وحده فى تقرير سياسته ورسم طريقه الذى يراه مؤدياً للتقدم بدون تهديد أو إرهاب، ولا فرق فى ذلك بين شعب ضعيف وآخر قوى». وكان المبدأ الرابع عشر من هذه المبادئ هو تكوين عصبة أمم لوضع ضمانات الاستقلال السياسى وسلامة الممتلكات لجميع البلدان. وقال فى خطبة أخرى فى يوليو عام 1918: «نحن لا نبغى سوى سيادة الحق القائم على رضا المحكومين أنفسهم والتى يعبر عنها الرأى العام». وتمت بعد ذلك الدعوة إلى مؤتمر للصلح فى باريس، وقُبلت فيه وفود دول عديدة مثل الحجاز والشام وأرمينيا والصرب والبلغار، وعندما طلب سعد زغلول ورفاقه من المندوب السامى البريطانى التصريح بالسفر لعرض القضية المصرية وطلب الاستقلال رفُض الطلب مما أدى إلى كثير من الأحداث اشتعلت بعدها ثورة الشعب عام 1919 بسبب نفى سعد زغلول.. ولم تهدأ هذه الثورة إلا بعد الإفراج عن سعد زغلول والسماح له بالذهاب إلى المؤتمر، وكان سعد يقول إن مصر هى الدولة الأكثر رقياً وحضارة وأسبق الأممالشرقية إلى تقرير النظام الدستورى، وقد أُعلن فيها الدستور الأول عام 1868 ثم عام 1879، وكان دستوراً يضاهى الدساتير الأوروبية الحديثة، ثم كان دستور عام 1882 الذى أسقطه الاحتلال الإنجليزى عام 1883.. وبعد ذهاب سعد زغلول ورفاقه إلى مؤتمر الصلح كانت المفاجأة فى انتظارهم.. فقد أعلنت الولاياتالمتحدةالأمريكية تأييدها للحماية الإنجليزية على مصر، وذهبت أوهام حقوق الشعوب وسيادة الحق ورضا المحكومين أدراج الرياح.. انتهت القصة التى قاربت على المائة عام. أما الآن فنحن نعيش العصر الذى يحمل شعاراً آخر وهو: من حق الولاياتالمتحدةالأمريكية تقرير مصير الشعوب على هواها ووفقاً لمصالحها.. ومن حقها مشاركة كل الشعوب فى ثرواتها والحصول على مخازن طاقتها.. ومن حقها فرض الديمقراطية الأمريكية والإصلاح الديمقراطى بالقهر والتمويل ومنع ومنح المعونة، ومن حقها إسقاط الأنظمة وقت أن تشاء، ومساندة أنظمة أخرى وقت أن تشاء، ومن حقها اختراع ما يسمى الفوضى الخلاقة لتدمير البلاد وتقسيمها إلى دويلات صغيرة تعيش فى تناحر ومعارك وقتل ودمار حتى تعود لعصر الإنسان الأول.. وساندت فى كل الدول العربية المنكوبة بالربيع العربى حكومات أصولية أخذت تهدم بمعول الدكتاتورية الصريحة أسس الدولة وأركانها، وتنشر الفتنة والصراع والحروب الأهلية.. وضاعت فى هذه الضوضاء الصارخة كل شعارات الولاياتالمتحدة بالحرية والعدل والحكم الديمقراطى وحقوق الإنسان والرأى والمواطن والمرأة، وباركت دساتير عرجاء تقضى بوأد الفتيات الصغيرات بالزواج فى سن الطفولة، وتعطى صلاحيات للرؤساء مطلقة وشمولية لم يحصل عليها «هتلر» فى زمانه.. والنتيجة الآن فى مصر أن معدل الفقر والبطالة فى ارتفاع سريع، والاقتصاد المصرى دُمّر تماماً، والاستثمار المصرى إما هرب إلى الخارج أو تم بيعه للشقيقة قطر.. السياحة دُمّرت تماماً، والآثار تُنهب وتسرق وتخرج للتجارة فى الأسواق الخارجية.. تدهورت قيمة الجنيه المصرى وساد الغلاء المرعب فى كل السلع.. العدل يترنح، والقضاء مكبّل وحسب هوى الحكام، والقانون يُدهس تحت أقدامهم.. المرأة المصرية تُغتصب فى الشوارع ويُهتك عرضها بالأسلحة البيضاء.. الفوضى سادت، ودُمرت وحدة الأمة وتفرقت شيعاً وأحزاباً. المعارضون يتم اصطيادهم بالقنّاصة.. والشباب الصغير الذى يعبّر عن رأيه على الفيس بوك يتم اغتيالهم أمام قصر الرئيس.. الصحافة مهددة بعد اغتيال صحفى معارض من الشباب والإعلام التليفزيونى يحاصر ويهدد أصحاب الكلمة بالموت والقتل ويهاجمون وتُهشَّم سياراتهم نساء ورجالاً. المكانة الدولية لمصر تضاءلت حتى أصبحت «قطر» شقيقة كبرى تمنّ على مصر بالأموال أمام كاميرات العالم.. الرئيس المصرى يهدد المعارضين فى خطاباته بكل وضوح، ويقرر أن يضحى ببعض المصريين، وتلفيق القضايا للشباب الذى يتظاهر يتم على قدم وساق. السيد الرئيس.. نحن الشعب المصرى نبحث الآن عن الديمقراطية التى دعمتموها بمليارات الدولارات ولا نجد سوى القمع والسحل والقتل والخراب.. ويبدو أن الديمقراطية التى صُدّرت لنا من لديكم منتهية الصلاحية، فقد سببت لنا التسمم والمرض والعجز. وقديماً قال الحكماء: الحرية لا تُمنح ولكنها تُنتزع.. كذلك الديمقراطية لا بد أن تصنعها الشعوب ولا تستوردها.. تمارسها ولا تقبلها كمنحة أو معونة.. تنبع من إرادتها وليس من إرادتكم. مع فائق الاحترام.