لغة السياسة فى مصر، وليس فقط مضمونها، تعانى من تراجع ملحوظ. فالطريقة التى نسمع كثير من الناس يتكلمون بها فى السياسة لا يمكن أن تساعد فى بناء توافق أو ترسيخ احترام أو بدء عملية سياسية تأخذنا إلى الأمام. واللغة فى السياسة مهمة شأنها فى ذلك شأن أى جانب إنسانى آخر. فمن خلال اللغة نصنع تصوراتنا ونحدد مواقفنا. فأذاننا تتلقى كلمات تترجمها عقولنا إلى تصورات نحدد على أساسها لأنفسنا الأفعال والتصرفات. وفى مصر قول شائع يدعى أن «الكلام معليهوش جمرك». وهذا خطأ لأن الكلام لا بد أن يكون عليه جمرك بما فى ذلك الكلام فى السياسة. وهناك أشكال معيبة من اللغة السياسية انتشرت على الشاشات وفى الصحف والحوارات المباشرة بين الناس يجب أن يفرض عليها كلها جمرك من أجل حماية الوطن وأهله. وأعرض بشكل مقتضب لتسعة أشكال شاعت بين المصريين وباتت تحتاج إلى فرض جمرك عليها، وهى: 1) لغة الإهانة والاستخفاف التى تتعمد توجيه ألفاظ نابية وكلمات معيبة وعمل تلميحات محرجة تستخف بوجود الآخر وقيمته. 2) لغة الفرقة بإثارة ما يشق الصف ويحول دون بناء مواقف مشتركة بين المصريين. لغة لا تهتم بالبحث عما يجمع الناس وإنما تدس السم فى العسل كلما تقاربت المواقف أو بدا فى الأفق فرصة للحل. 3) لغة التخوين وتستعمل مفردات العمالة والتبعية للخارج حتى تلحق بالمقصودين بها أقصى درجات التشويه. 4) لغة الإحباط وتثير اليأس فى النفوس من الوضع القائم ولا ترى فيه غير السلبى ولا تهتم بالبحث عن حلول. 5) لغة الادعاء والتيه بالذات ويكثر من يستعملها ادعاء النزاهة فى نفسه والغيرة الاستثنائية على الوطن. وعادةً ما يلجأ من يستعملها إلى استعمال لغتى الإهانة والتخوين. 6) لغة الاتهام وتقل درجة عن لغة التخوين وإن كانت من جنسها. فهى لا تصل إلى حد الزعم بخيانة الآخرين للوطن لكنها لا ترصد فيهم غير مخالفات ارتكبوها أو تصريحات قالوها أو تحالفات سياسية أقاموها. 7) لغة القذف وهى سباب فاضح وتعريض يعاقب عليه القانون. راجت فى ظل غيبة وضعف القانون خاصةً فى حوارات الشارع ووسط تجمع المتظاهرين. 8) لغة التشهير وهى امتداد للغة الاتهام لا يعنيها غير تشويه صورة الآخرين واختلاق صور سلبية عنهم تحرقهم إعلامياً وجماهيرياً. 9) لغة الالتفاف وهى لغة ناعمة لكنها غير مجدية. تستعمل فيما يسمى بالحوارات الوطنية. فمن يشارك فيها يسمع ردوداً طيبة على مطالبه لكنه يجد أنه لا يؤخذ بها إلا فى الحدود الدنيا أو لا يؤخذ بها على الإطلاق. 10) لغة التكفير وتخرج الآخرين من الملة بدمغهم بالكفر مباشرةً أو بالتشكيك فى إيمانهم. وتعبئ هذه اللغة المتحمسين دينياً للقصاص ممن يعتبرونه دنسا يجب التخلص منه. أشكالٌ غريبة ومريبة وعجيبة من لغة السياسة لا بد أن يفرض عليها جمرك. عليها وحدها دون غيرها لأن الكلام فى السياسة ليس عليه من حيث المبدأ جمرك وإنما الجمرك يفرض فقط على الأشكال المعيبة منه. لكن من لديه الحق يا ترى ليفرض هذا الجمرك؟ إنها الدولة.. لكن الدولة صنيعة جماعاتها.. وكثير من جماعاتها غارق للأسف فى بعض إن لم يكن معظم هذه الأشكال المسفة من اللغة. فكيف يعطى الشىء من حرم منه؟.. لهذا وإلى أن تعود الدولة لتولى مسئولياتها كاملة فليس من عشم فى استرداد اللياقة اللغوية إلى السياسة المصرية إلا بتقدم الواعين من الساسة والمثقفين بطرح أفكارهم بلغة تحرص على تأكيد معانى الاحترام والوحدة والثقة والأمل والتواضع واليقين والتقدير والمكاشفة بدلاً من تلك الأشكال المعيبة التى يجب أن يفرض عليها جمرك.