هنا سقط نظام مبارك: وجوه تكسوها «تجاعيد ألم ميتة» دون أمل فى بسمة تعيد إليها الحياة.. أجساد «منهكة ومنتهكة» تشد بعضها بعضاً خوفاً من السقوط.. نظرات عابثة وساخطة ومستعدة للانفجار فى أى لحظة وإلى أى مدى. هنا «المترو» المزدحم ب«حكايات الألم».. حكايات ربما ينساها راكبو السلطة، لكنها تزداد يوماً بعد يوم فى انتظار «لحظة الانقضاض». (1) يحمل الرجل - بملامحه المغلوبة على أمرها - طفله الرضيع، ملفوفاً ببطانية متواضعة، دون وجود ل«الأم» معهما. يبكى الرضيع بشدة دون توقف. يحاول الأب إسكاته دون جدوى. يترك مقعده ويتحرك فى طُرقة المترو لعله يهدأ، فيدخل الطفل فى نوبة بكاء أشد. تتدخل فتاة - تجاوزها سن الزواج - فى نهاية العربة. تنادى الرجل، وتمد يديها لتأخذ الطفل. تحتضنه برفق شديد، وفى عينيها احتواء ليس له مثيل، تضمه إلى صدرها مع «هدهدة» جميلة وكأنها ترضعه، وبعد أقل من دقيقة.. يسكت الطفل، وتبقى على نظرتها الحزينة. (2) أوشكت السيدتان - إحداهما منتقبة - على أن تفتكا بالرجل أثناء النزول إلى محطة الشهداء - مبارك سابقاً - وأخذتا تصرخان فى وجهه «يسكت.. يسكت حكم المرشد»، فتراجع الرجل، وتجمع البشر لمتابعة ما يجرى. قال الرجل بصوت خفيض «البلد بتخرب.. عايزين نهدا وناكل لقمة عيش»، فردت السيدتان - بكلمات متداخلة وعنيفة - «مش هناكلها بالذل تانى.. وبعدين الإخوان دول أغنيا يا حبيبى مش زى حالاتنا.. وما يهمهمش البلد.. يهمهم مصلحتهم بس». عاد الرجل ليرمى لهما بحجة جديدة «مهو إنتو اللى جبتوا مرسى للحكم»، فقالت إحداهما وقد دخلت فى فاصل من التشويح «لا يا حبيبى دى صفكة بين طنطاوى والأمريكان». استسلم الرجل ليأسه، وعدم قدرته على استكمال المواجهة، فأنهت السيدتان هجومهما الكاسح بالهتاف نفسه: «يسكت يسكت حكم المرشد». (3) لا يثير الرجل أى اهتمام بملابسه وملامحه «العادية». يقف - رغم المقاعد الخالية - فى منتصف عربة المترو تقريباً، يلقى نظرات غير مكترثة على الجميع، قبل أن يتحول. فجأة، علا صوت الرجل صوب إحدى الفتيات «إيه يا مزة.. تتجوزينى؟!». أصابت المفاجأة الفتاة - ومن حولها - برعب حقيقى. تراجعت مذعورة لتلتصق بالباب المغلق. يتركها ويغازل غيرها، قبل أن يدير حواراً - من طرف واحد - مع راكب يبدو عليه التماسك، يسرد عليه ما تيسر من حكايات عن بطولاته الوهمية، بداية من مهاراته الشنيعة - هكذا قالها - ب«الكرة الشراب» فى الحارة أيام الشباب الضائع، وحتى غزواته على «سرير الليل المكسور». أدرك ركاب المترو أنهم أمام رجل مجنون، فزادته نظراتهم له جنوناً. دخل فى فاصل جديد من الحركة، يربت بيده على كتف أحدهم بجملة «آدى حال الدنيا يا حاج»، ويتوجه بنظرة حادة وعبارة محذرة لفتاة: «إيه اللى إنتى مهبباه فى نفسك ده.. ما لقتيش لبس أوسع من كده شوية.. جاتك خيبة عمرك ما هتتجوزى بالشكل ده». وبينما يستعد عدد من الركاب - خوفاً - للمغادرة، يسبقهم الرجل إلى أحد أبواب المترو، ملوّحاً بيده للجميع: «آسف يا جماعة.. أنا والله مش مجنون.. لكن العيشة بقت غالية.. والشغل بتاعى كل يوم فى النازل.. لدرجة إنى بقيت مش عارف أأكل عيالى.. أنا آسف مرة تانية.. سلامو عليكو».