أن تقرأ مقالاً واحداً للأستاذ أحمد منصور -المذيع بقناة «الجزيرة» والكاتب بجريدة «الوطن»- فتلك معاناة حقيقية. فما بالك بهذه الآفة التى ألزمتُ نفسى بها منذ أن اشتغلت بمهنة الصحافة، وتدفعنى -رغم أنفى- إلى قراءة أمثال أحمد منصور يومياً ودون هوادة، وكأنى مريض ألتذ بتعذيب نفسى!. نعم، هو عذاب رهيب أن تصادف الحقائق مقلوبة دائماً، والمغالطات مبذولة دون رحمة، والشتائم نضاحة فى غلظة فاحشة وغطرسة مقززة لا تعرف سقفاً، هذا بالإضافة إلى فيض منهمر من الكذب الممنهج، يمارسه شخص لا يرى فى الكذب نقيصة، بل يعتبره أهم وسائل تمكين «جماعته» واغتيال أعدائها سياسياً وأخلاقياً. فى 18 أغسطس 2012 كتب أحمد منصور عشرة مقالات فى «الوطن» تحت عنوان «قصة البيان الأول للثورة المصرية»، فأقبلتُ على القراءة بشغف بالغ، متصوراً -لفرط سذاجتى- أننى سأعثر على توثيق مكتوب من شخص يعمل فى قناة «الجزيرة» القطرية، التى أذاعت مساء 25 يناير 2011، بياناً شديد الأهمية ألقاه الدكتور عبدالجليل مصطفى من مقر «حزب الغد»، وكان إلى جواره أثناء إلقاء البيان عدد من الشخصيات العامة، أذكر منهم الدكتور أسامة الغزالى حرب وأيمن نور، وبعد نجاح الثورة وتنحى «مبارك» عن الحكم، اختفى هذا البيان، ولم تعد قناة «الجزيرة» إلى إذاعته بعد ذلك أبداً. لقد كنت أعرف، ويعرف كثيرون غيرى، أن إخفاء البيان الأول الحقيقى للثورة المصرية، كان عملاً مقصوداً من «الجزيرة» لإعادة إنتاج وقائع الثورة المصرية بطريقة زائفة تضع «الإخوان» فى صدارة المشهد الثورى، وتدفع القوى الوطنية التى دعت إلى الثورة وأشعلتها وتعهدتها حتى سقط الرئيس السابق، إلى عتمة الهامش، وإذا بمقالات أحمد منصور عن «البيان الأول» تؤكد هذه المعرفة، بل ترقى بها إلى يقين كامل، راح طيلة عشرة أيام يرُاكم بداخلى شعوراً بالتقزز من هذه «الآفة العميقة» التى تؤهل أصحابها للسطو على بسالة الآخرين. بدأ أحمد منصور مقالاته العشرة بتمهيد قال فيه إنه سيروى قصة البيان الأول للثورة حتى «أضع النقاط على الحروف بشأن بعض من اختارهم الرئيس محمد مرسى ضمن فريقه الرئاسى، وعلى رأسهم نائبه المستشار محمود مكى، ومستشاره القانونى المستشار محمد فؤاد جاد الله ودورهما فى صناعة البيان الأول لثورة 25 يناير وتقديمه لوسائل الإعلام العالمية». ثم يقول فوراً: «بدأت فكرة البيان الأول للثورة تراودنى قبل أسبوع تقريباً من إجبار الرئيس حسنى مبارك على التخلى عن السلطة».. ولا ينتهى المقال الأول لأحمد منصور قبل أن يسجل باجتراء أنه صاحب فكرة البيان الأول وأن المستشار جاد الله شاركه فى كتابته، والأهم من هذه الاستباحة الفظيعة أنه كان يعمل مع آخرين من الشخصيات العامة، «وكنا نشكل خلية تفكير ضيقة مثل غيرنا، كنا ندرس الفكرة ثم ندحرجها فى الميدان فيتلقفها الشباب وتتحول إلى خبر مهم فى وسائل الإعلام». هكذا تحول الميدان كله خلال أيام الثورة إلى قطيع يقوده أحمد منصور الذى كان يفكر ثم «يدحرج» الفكرة، وظل طيلة الثورة يدحرج ويدحرج، حتى يكاد القارئ من فرط «الدحرجة» أن تختلط عليه الأمور فلا يدرى إن كان ما عرفناه آنذاك هو ثورة 25 يناير.. أم أنها «ثورة 25 أحمد منصور.. رائد الدحرجة الثورية». وعلى امتداد المقالات العشرة لا يتوقف مذيع «الجزيرة» -القناة الرسمية للإخوان- عن قصف القارئ بحكاية مملة تنضح بتضخم الذات، وتضعه فى قمة المشهد الثورى بوصفه المفكر الأول فى البيان، والكاتب الأول للبيان الذى نكتشف أنه اختار المستشار محمود مكى ليلقيه بنفسه بعد خروج اللواء عمر سليمان على شاشات التليفزيون ليعلن «تنحى الرئيس مبارك عن منصب رئيس الجمهورية»، ثم يعاود رائد «الدحرجة» القفز هو وجماعته على الثورة، ويقصف القارئ مرة أخرى بحكاية البيان الثانى للثورة الذى فكر فيه أيضاً وكتبه أيضاً واختار شخصاً آخر لإلقائه، يُدعى أحمد نجيب، وقد تفضل «منصور» بالوقوف إلى جانب «نجيب» وهو يلقى البيان الثانى لثورة الدحرجة الإخوانية!. وتنتهى القصة الطويلة دون أن يشعر القارئ الفطن بأن هذا الشخص الذى استحل لنفسه ولجماعته هذا الدور، يمكن أن يخجل من هذه الأسئلة: ما هى البطولة وما هو الإنجاز فى تلاوة بيان ثورى بعد سقوط الحاكم الذى قامت الثورة للإطاحة به؟. أوليس البيان الذى ألقاه الدكتور عبدالجليل مصطفى ليلة 25 يناير 2011 هو الأحرى بأن يكون البيان الأول الحقيقى للثورة المصرية؟، ثم أليس من «أحرم الحرام» أن يدوس هذا الشخص وجماعته على رقاب القامات الوطنية التى دعت إلى الثورة فى الوقت الذى رفضها الإخوان، وبدأتها وأنجزت أهم مراحلها قبل أن يقرر «الإخوان» القفز عليها وقد أصبحت «الثورية» عملاً آمناً؟. ولكن ما الذى دعانى إلى استدعاء هذه «الخطايا العشر» لرائد ثورة الدحرجة بعد شهور من اقترافها؟. الحقيقة أن عدة مقالات كتبها أحمد منصور خلال الأسبوع الماضى تعليقاً على مظاهرات قصر الاتحادية وسحل المواطن حمادة صابر واهتمام وسائل الإعلام «الممولة والمأجورة من وجهة نظره» بمسرحية المسحول، أعادت مقالاته عن البيان الأول للثورة إلى ذاكرتى.. لأنه -خلال انشغاله فى هذه المقالات بالسطو على الثورة وادعاء بطولات زائفة- راح يعدد الأفكار التى نبتت فى عقله وأوحى بها للمتظاهرين فى ميدان التحرير وقادهم إلى تنفيذها. إنه يكتب وبالحرف الواحد: «من أهم الأفكار التى دحرجناها فى الميدان ثم فى وسائل الإعلام فكرة حصار مبنى مجلس الوزراء ومنع أحمد شفيق من دخوله».. ثم يكتب بالحرف الواحد أيضاً: «من الأفكار التى دحرجناها فكرة حصار مبنى الإذاعة والتليفزيون».. ثم يضيف فى موضع آخر: «واقترحت عليهم أن نضع فى خطتنا كل يوم مكاناً قريباً من الميدان نحاصره ومن بين الأماكن التى حددناها مبنى الإذاعة والتليفزيون ودار القضاء العالى.. واستبعدنا القصر الجمهورى بسبب البعد والحرس، لكن بعد خطاب مبارك الخميس 10 فبراير هتفت فى الناس قائلاً: على القصر الجمهورى، فانطلق الناس إلى القصر الجمهورى». هذا التباهى البغيض بأنه العقل المفكر والمحرك للجماهير الغفيرة، ظل عالقاً فى ذاكرتى، وإذا به يتصادم مع حملته الضارية ضد زعماء «جبهة الإنقاذ» خلال الأيام الماضية فى سلسلة مقالات أخذ يسخر فيها من المواطن المسحول، ويوجه أفظع السباب لهؤلاء الذين سولت لهم قوى الشر والخيانة التوجه إلى قصر الشعب -لاحظوا حكاية الشعب- وليس قصر «مرسى» أو غيره، ثم يقول دون أدنى إحساس ببشاعة التناقض: «كان يجب أن ينتفض كل صاحب خُلق من السياسيين إن كانت هناك بقية من الأخلاق لديهم لإدانة إحراق قصر الشعب». إنه منطق الاستباحة الإخوانية -والقطرية أيضاً- لقصر الاتحادية ومجلس الوزراء ودار القضاء العالى ومبنى الإذاعة والتليفزيون ومجلس الشعب، إذا كان الحصار يخدمهم، ومنطق المغالطة المهينة لذكاء وفطنة الشعب كله، عندما يدحرج الأستاذ أحمد منصور كذبة عريضة وعميقة هى أن الثوار وزعماء «جبهة الإنقاذ» هم الذين يحرقون قصر الشعب.. ثم ينطلق من هذه الكذبة -والكذب عندهم دحرجة مبدئية- إلى تجريد كل السياسيين من الأخلاق. وأخيراً.. ألا يعرف الأستاذ أحمد منصور أننا نعرف أن الفاعل الرئيسى فى كل أحداث الحرق ورمى «المولوتوف» وإطلاق «الخرطوش» واغتصاب النساء فى ميدان التحرير..هو نفسه الذى استحل لنفسه سرقة الثورة واستحل لجماعته الكذب والخداع وعقد الصفقات المشبوهة واغتصب الدستور ونقض كل العهود؟.. وألا يعرف الأستاذ منصور أننا نعرف أن الذى لا يشعر بالعار من سحل مواطن وتعريته ومن اختطاف بشر وتعذيبهم داخل أسوار «الاتحادية».. هو الأكثر اجتراء على تدبير كل هذه الحرائق لاغتيال الثوار أخلاقياً، بعد أن اجترأ على سرقة ثورة لم يشارك فيها إلا بعد أن تأكد من نجاحها؟ المصيبة أنه يعرف أننا نعرف.. ولكن الحضيض ليس له قاع!.