رئيس جامعة العريش يدعو طلاب الثانوية العامة للالتحاق بالجامعة    شركات التكنولوجيا المالية تستعرض تجاربها الناجحة بالسوق المصرية    رئيس "إسكان النواب": تصريحات الرئيس السيسي بشأن الإيجار القديم تؤكد أنه سيصدق على القانون    إعلام فلسطيني: ارتقاء 6 شهداء في قصف للاحتلال استهدف مخيم النصيرات    الصين تدعم بقوة عمل اليونسكو    وسط ارتفاع وفيات المجاعة في غزة.. حماس ترد على مقترح وقف إطلاق النار    علي معلول ينضم للصفاقسي التونسي لمدة 3 مواسم    إحالة 5 من العاملين بإحدى المدارس الابتدائية بالقاهرة للتأديبية    بالفيديو.. حمزة نمرة يطرح 3 أغنيات من ألبومه الجديد "قرار شخصي"    الحبُ للحبيبِ الأوَّلِ    أحمد سعد يتصدر تريند يوتيوب في مصر والدول العربية بأغاني "بيستهبل"    برشلونة يعلن ضم ماركوس راشفورد.. ويرتدي رقم كرويف وهنري    مدرب خيتافي: كنت أراهن على نجاح إبراهيم عادل في الدوري الإسباني    حزب إرادة جيل يهنئ الرئيس السيسي والشعب المصري بذكرى ثورة 23 يوليو    البابا تواضروس يستقبل مجموعة خدام من كنيستنا في نيوكاسل    علي معلول يوقع على عقود انضمامه إلى ناديه الجديد    «أجبرتها على التراجع».. مروحية إيرانية تتصدى لمدمرة أمريكية في المياه الإقليمية    أوكرانيا وروسيا تستعدان لإجراء محادثات سلام في تركيا    الكنيست يوافق على قرار لفرض السيادة الإسرائيلية في الضفة وغور الأردن    مؤشرات تنسيق الثانوية العامة 2025 علمي.. كليات ومعاهد تقبل مجموع 50% فقط في 2024    خلال استقبال مساعد وزير الصحة.. محافظ أسوان: التأمين الشامل ساهم في تطوير الصروح الطبية    بالأسماء.. رئيس أمناء جامعة بنها الأهلية يُصدر 9 قرارات بتعيين قيادات جامعية جديدة    منهم برج الدلو والحوت.. الأبراج الأكثر حظًا في الحياة العاطفية في شهر أغسطس 2025    متحدث الوزراء يكشف السبب الرئيسي وراء تأجيل احتفالية افتتاح المتحف المصري الكبير    وزير الدفاع يكرم أصحاب الإنجازات الرياضية من أبناء القوات المسلحة (تفاصيل)    ماذا يحدث لجسمك عند تناول السلمون نيئًا؟    من الارتفاع إلى الهبوط.. قراءة في أداء سهم "بنيان" في ثاني يوم تداول بالبورصة    القاهرة والرياض تبحثان مستجدات الأوضاع بالبحر الأحمر    خادم الحرمين وولى العهد السعودى يهنئان الرئيس السيسى بذكرى ثورة 23 يوليو    بعد تراجع 408.. تعرف على أسعار جميع سيارات بيجو موديل 2026 بمصر    أهم أخبار السعودية اليوم الأربعاء.. وفد اقتصادي يزور سوريا    برلين تمهد الطريق أمام تصدير مقاتلات يوروفايتر لتركيا    «اتصرف غلط».. نجم الأهلي السابق يعلق على أزمة وسام أبو علي ويختار أفضل بديل    فسخ العقود وإنذارات للمتأخرين.. ماذا يحدث في تقنين أراضي أملاك الدولة بقنا؟    خطة استثمارية ب100 مليون دولار.. «البترول» و«دانة غاز» تعلنان نتائج بئر «بيجونيا-2» بإنتاج 9 مليارات قدم    ب2.5 مليون.. افتتاح أعمال رفع كفاءة وحدة الأشعة بمستشفى فاقوس في الشرقية (تفاصيل)    لماذا لا ينخفض ضغط الدم رغم تناول العلاج؟.. 9 أسباب وراء تلك المشكلة    "المطورين العقاريين" تطالب بحوار عاجل بشأن قرار إلغاء تخصيص الأراضي    رضا البحراوي يمازح طلاب الثانوية العامة    الأهلي يترقب انتعاش خزينته ب 5.5 مليون دولار خلال ساعات    وفاة شخصين متأثرين بإصابتهما في حادث تصادم سيارتين بقنا    على شاطئ البحر.. أحدث ظهور للفنانة بشرى والجمهور يعلق    الإفتاء توضح كيفية إتمام الصفوف في صلاة الجماعة    محفظ قرآن بقنا يهدي طالبة ثانوية عامة رحلة عمرة    أمين الفتوى: الشبكة جزء من المهر والأصل أن تعود للخاطب عند فسخ الخطبة    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : كم نتمنى ان نكون مثلكم ?!    أسرة مريم الخامس أدبي تستقبل نتيجتها بالزغاريد في دمياط    ضبط 3695 قضية سرقة كهرباء خلال 24 ساعة    ضبط 30 متهما في قضايا سرقات بالقاهرة    فيريرا يركز على الجوانب الفنية في مران الزمالك الصباحي    "الأعلى للإعلام" يُوقف مها الصغير ويحيلها للنيابة بتهمة التعدي على الملكية الفكرية    بالفيديو.. الأرصاد: موجة شديدة الحرارة تضرب البلاد حتى منتصف الأسبوع المقبل    طريقة عمل المكرونة بالبشاميل، بطريقة المحلات وطعم مميز    البنك الزراعي المصري يبحث تعزيز التعاون مع اتحاد نقابات جنوب إفريقيا    رئيس الوزراء يتفقد موقع إنشاء المحطة النووية بالضبعة    دار الإفتاء المصرية توضح حكم تشريح جثة الميت    خلال فترة التدريب.. مندوب نقل أموال ينهب ماكينات ATM بشبرا الخيمة    حريق يلتهم مطعما شهيرا بكرداسة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



4 مدارس أثرية تغرق فى محيط الداخلية
"الحوياتى": عروس التهمتها النيران عمدًا..
نشر في الوطن يوم 06 - 02 - 2013

جدران تكشف عن جدران، قنينات زجاجية استخدمها الطلاب فى حصة الكيمياء تحطمت فُتاتاً، مراوح سقف انصهرت من قيظ السخونة الشديد، «تُخت» خشبية متفحمة وأخرى حديدية ليس لها أى معالم، سلم دائرى كبير مصنوع من الخشب محمول على قضيبين حديديين كانا مُعلقين عالياً يصلان بين الدورين الأول والثانى فتحطما عن آخرهما، أعمدة مُزينة بالفسيفساء، وأرضية منزوعة البلاط، جيتار تقطعت أوتاره، كتاب الله الكريم حُرقت صفحاته، نوافذ خشبية عتيقة تفحمت، بقايا من قنابل مولوتوف وغاز مُسيل للدموع تناثرت فى أرجاء المكان، زجاج مُعشّق مطلى بمياه الذهب، وأسقف مرسومة تُذكرك بزخارف مايكل أنجلو فى كنيسة «السكستين» بقلب الفاتيكان... هنا مدرسة «الحوياتى» الثانوية بنات حالياً، قطعة تفردت فى تفحمها وانهيارها مقارنة ببقية المدارس التى تُحيط بوزارة الداخلية، والتى طالها ما طالها هى الأخرى من إتلاف وتخريب من قبل جهلاء بقيمة العلم والتاريخ.
«تُخت» خشبية ومقاعد حملها المتظاهرون على أكتافهم وكأنهم يحملون أسفارا، أخرجوها من مدرستى الليسيه الخاصة والحوياتى الحكومية، ثم وضعوها فى منتصف شارع الشيخ ريحان، كان الليل قد اقترب من انتصافه، وضع المتظاهرون أنبوبة مملوءة بالغاز وسط الركام المشتعل، أحضروها من معمل المدرسة، ثم أخذوا يتراقصون حولها وكأنهم يعبدونها، دقائق مرت، والابتسامة البلهاء ترتسم على وجوههم، بينما يراقبهم مجندو الأمن المركزى من أعلى مدرسة القربية، يستفزون بعضهم البعض، وما هى إلا دقائق مرت حتى اختبأ الجميع فالأنبوبة قاربت على الانفجار.. «بووووووم» صوت دوّى فى المكان سمعه سكان منطقة عابدين، تناثرت القطع الحديدية للأنبوبة فحطمت ما حطمت من زجاج للمدرستين، ثم هللوا وهتفوا: «داخلية بلطجية»، لم يتوقفوا بل استمروا فى عنادهم خاصة بعد إلقاء قنابل الغاز المسيلة للدموع نحوهم، وهو ما استفز مشاعرهم البليدة، ليقتحموا مدرسة «الحوياتى» ويجعلون «عاليها واطيها»، يحرقون وينهبون ويتفاخرون بما اقتنصوا بأيديهم من غنائم ومكاسب.. كان ذلك ليلة 26 يناير 2013، يوم الاحتفال بذكرى ثورة يناير الثانية.
على بُعد خطوات من أبواب المدرسة، كونوا دائرة جلسوا فيها على بقايا الكراسى المتهالكة، يستقبلون العزاء من الوفود التى تُذهل من هول المشهد، تترأس الجلسة مُتشحة بالسواد «عفاف السيد» مديرة المدرسة، عيناها الذابلتان تُشيران إلى مفارقتها النوم: «إحنا مأمورين بحماية الداخلية بس»، تعلق بها السيدة الخمسينية على رد فعل رجال الشرطة بعد أن اندلعت النيران فى 5 غرف قبل نحو عام، وقتها كانت المدرسة أشبه بعروس فى ليلة زفافها: «استلمنا المدرسة من الأبنية التعليمية فى شهر أكتوبر 2011، بس للأسف معداش غير شهر واحد وابتدت أحداث محمد محمود ومعاها الخراب».. أكثر ما يُغضب «عفاف» هو تعامل الشرطة مع المكان باعتباره نقطة دفاع أولى عن مبنى لاظوغلى القديم: «العساكر كانوا بيحدفوا القنابل على المتظاهرين من سطح المدرسة».[Image_2]
بعد بناء الخديو إسماعيل لقصر عابدين قرر أن يُملك المنطقة من النيل حتى القصر لكل من «يبنى قصراً يتكلف أكتر من 2000 جنيه»، المدرسة كانت قصرا للبستانى باشا، وكان «الحوياتى» هو الرجل الذى اشترى القصر منه منذ ما يقرب من 100 سنة. بين تلك الأعمدة الأثرية ووسط تلك الأسقف الشاهقة، عاش الباشا التركى، وبعد وفاته بسنوات، وبالتحديد فى عام 1944، تحول القصر إلى مدرسة «ثانوى نسوى»، قبل أن يستقر به الحال فى عام 1964 تحت اسم «مدرسة الحوياتى الثانوية بنات»، احتفظت المدرسة بشكلها التاريخى، فسياج السلالم تحفة فنية حديدية دائرية مُطعمة بالنحاس على شكل جذوع أشجار، ويتوسطه شباك من الفسيفساء الملون بألوان جميلة تعكس ضوء الشمس، أما البرج فكان عبارة عن ملحق بالمبنى الأساسى.
«حسبة برما» هى تلك التى دخل فيها الأستاذ محمد إبراهيم، مدرس الرياضيات، ليلة 26 يناير 2013؛ حين فاجأه دخول 1000 شخص دفعة واحدة للعبث بمحتويات المكان: «قعدت أقول لهم يا جماعة المدرسة مفيهاش غير ورق إنتو عاوزين منها إيه؟!»، إلا أنهم رفضوا الانصياع لأوامره وعاثوا فى المكان فساداً قبل أن يُحرقوا كل ما فيه، الغرفة المخصصة لتسليم الكتب صارت رمادا والمكاتب مقلوبة.. غرفة التربية الزراعية لا تزال بها أزهار تحاول أن تتشبث بجزء من الحياة، تحت ركام الأرض خطابات مرسلة من المدرسة للطلبة بعضها يحوى شكرا وأخرى تحذيرا بفعل الغياب، الدولاب الخاص بدوسيهات الطلبة «تاريخ الطلاب التعليمى» تم محوه بفعل فاعل، حسب أستاذ الرياضيات، الذى يؤكد أنه «فيه شوية شباب محترم دخلوا شالوا معايا بعض الثلاجات والمبردات الموجودة فى المدرسة، بس فى تانى يوم البلطجية حرقوها».. عم «محمد عبدالعال»، فراش المدرسة، لم ينجُ من أفعال الشياطين، فقد شُجّت رأسه بسلاح حاد حين فكر أن يمنع الجريمة من الوقوع.
المدرسة التى تتكون من 3 أدوار، تقبع فى فصولها الأرضية معامل العلوم، وغرفة خاصة بتسليم الكتب المدرسية، لم يبق منها سوى قصاصات، فيما تحول الطابق الأول إلى رماد، معمل الوسائط، المكون من 60 مقعداً متطوراً وداتا شو وكمبيوتر وتليفزيون وريسيفر، تحول من غرفة قمة فى التطور إلى مكان يشبه العودة للعصور الوسطى، بينما أضحت غرفة المديرة خواء من أى تفاصيل «المكتب والأنتريه ودواليب وأوراق مهمة»، لم يبقَ منها سوى إطار خارجى لمروحة صغيرة: «كل اللى موجود اتسرق، ومفيش حاجة تقول إن فيه حريق هنا».
«الشرطة بتقول إنها مابتضربش المتظاهرين وبتحمى المحيط.. أنا مش شايف إن فيه منشآت اتحمت بدليل إن محدش هوب ناحية وزارة الداخلية»، يقولها الأستاذ حسن حسين، مدرس الكيمياء، بصوت متأثر بما جرى حوله، يحكى عن تلك اللحظات التى كان يشعر فيها أنه مالك للكون بكلمات يبدأ بها حصته: «قم للمعلم وفِّه التبجيلا.. كاد المعلم أن يكون رسولا»، فيما كانت تشاركه إحدى الطالبات التى تخرجت من المكان قبل 7 سنوات شعور الحسرة ذاته وقتما بكت على أطلال الرواق الذى احتضنها صبية.. حين تواترت إلى مسامع مدرس الكيمياء أنباء اندلاع النيران فى المدرسة أصابته نوبة ذعر: «لما المدرسة تتحرق تبقى مصر كلها بتتحرق»!
جيتار مُحطم نُزعت أوتاره، هو ما يستقبلك فى أهداب الطابق الثانى برفقة آلات موسيقية تصرخ من هول الكارثة، ومكاتب مدرسين تحتضن بعضها بعدما قربت بينها الحرائق، من الدور الثانى تبدو أرضية المدرسة هوة سحيقة تلقف الأقدام.. «الأمن فى الإسلام»، عنوان كتاب طالته النار لُتبدد معنى الطمأنينة لقاطنى المكان ومحبيه، فيما يسند الأديب الراحل طه حسين يده على خده على غلاف رائعته «الأيام»، فى إشارة إلى المأساة التى يندى لها الجبين، فى الوقت الذى احترق فيه كتاب الله.
الأشجار والنخيل الفارع وقفا حزينين يطلان من عل على الدمار الذى لحق بالمكان، على سبورة نجت لحقها قدر من شرار النار دُونت عليها كلمات: «امتحانات الفصل الدراسى الأول»، هو آخر ما وقعت عليه أعين الطلاب يوم 23 يناير 2013. أما فى الدور الأخير فتوصلك سلالم حديدية تستخدم فى أعمال الإنشاء، وهو الطابق الذى يظهر من خلاله أن ذلك المكان كان يوماً يُلقى فيه العلم، خريطة مصر ملقاة على الأرض وأجزاء من كتب اللغات، فيما لازمت صورة الخراب الغرفة المخصصة للتدبير المنزلى كأنقاض الحرب؛ بعد أن سرقت منها ماكينات الخياطة، وبدا «الخشب مكرمش م الزعل».
«أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصا لجمهورية مصر العربية، وأن أبذل جهدى لرفعتها والدفاع عنها ضد كل عدو وكل غاصب...»، قسم داخل لوح زجاجى لم تطله النار، يتلوه الطالب فور دخوله المدرسة، لذا لم يكن مستغربا أن يبكى طلاب المدرسة بعدما عجزوا عن الدفاع عن بيتهم الثانى الذى صار أطلالا بفعل البلطجة.
لم تقتصر علاقتهما على «أكل العيش» فقط، فمع جدران ذلك المبنى الأثرى أقام الدكتور محمد بحر علاقة حب وعشق وعشرة.. بتؤدة يسير صوب مدرسة «الليسيه»، يرمق بعينيه ارتفاعها، ونوافذها المُجلدة بالحديد الفورفورجيه المصنوع يدوياً بمهارة، 0وذلك السقف الذى أصبح أطلالا.. هنا الفصل الذى بدأ فيه «بحر» علاقته مع التدريس منذ 17 سنة، تلك السبورة الجيرية، وهؤلاء الطلاب الذين تخرج من أفواههم الحروف بأناقة، ومادة اللغة الفرنسية التى عشقها.. دقائق غاب فيها عن الواقع سارحاً بخياله متذكراً «نور ونورهان» فلذتى كبده اللتين تلقيا العلم هنا فى ذلك المبنى الشاهق، وجدهما ذات مرة يبكيان حرقة، وأعينهما مُنتفخة: «المدرسة اتحرقت يا بابا»، هكذا قالاها بحزن بالغ، شاركهما والدهما فى البُكاء: «المدرسة دى هى الحاجة اللى بتوثق الاحتلال الفرنسى لمصر»، يُحرك الرجل الأربعينى نظره صوب ذلك البدروم الذى لم يسع سوى رماد متطاير: «استغليناه وعملنا فيه أوضة موسيقى وتربية فنية»، رئيس مجلس أمناء المدرسة يحكى بحرقة عن محبوبته: «فى فرنسا الناس اللى كانت رافضة تدخل الجيش.. كانوا بيبعتوهم فى مدارس الليسيه عشان يعلموا الطلبة اللغة الفرنسية»، باع طويل، انتهى الاحتلال وما زال الاستثمار فى العقول سارياً، إلا أن احتلالاً آخر استولى على المدرسة، بداية من المتظاهرين الذين أحرقوه نهاية بمجندى الأمن المركزى الذين اتخذوه مبيتاً لهم، ينامون فيه ويبولون، إلا أن أكثر ما يؤلم الدكتور محمد البحر هو تلك المكتبة التى تحتوى على دُرر ثمينة، وكُتب قيمة: «كان عندنا كتاب وصف مصر فى المدرسة نسخة حقيقية كتبها نابليون بونابرت عبارة عن 30 مجلد من تاريخ 1798، خبيتها فى مكان آمن عشان ماتتحرقش.. لو ضاعت كان تاريخ الثورة الفرنسية كله هيضيع»، آملاً فى تنفيذ وزير التربية والتعليم إبراهيم غُنيم لوعوده: «قال إنه هيرجع المدرسة زى ما كانت.. آدينا مستنيين».[Image_3]
أيادٍ غربية شيدتها بشياكة وإتقان، احتلال فرنسى لمصر أظهرها إلى النور، فى أوائل الثلاثينات بدأوا العمل فيها وانتهوا منها، حوائط حاملة وأسقف وكمرات خرسانية على الطراز الإسلامى، مُزينة بتلك الزخارف البديعة التى تجذب المار والذاهب، مُقرنصات دينية تمزج بين الدين والإبداع؛ مُجلاة على باب المدرسة الرئيسى، صرح عملى يحوى بداخله ثلاثة أبنية؛ إحداها للمرحلة الابتدائية، وأخرى للمرحلتين الإعدادية والثانوية، وأخيرة لرياض الأطفال.. مدرسة الليسيه الفرنسية، تحولت من صرح للعلم يسكنه الطلاب إلى مأوى لمجندى الأمن المركزى الذين يعتلونها وقت الاشتباكات ويغفون فيها قليلا عند هدوء الأوضاع، لم تنجُ من الأحداث، طالها الدمار والخراب، المرة الأولى فى أحداث محمد محمود فى 19 نوفمبر 2011، وقتها قامت مجموعة من المتظاهرين بكسر باب المدرسة بغرض المرور إلى شارع آخر قريب من وزارة الداخلية، رشق بالطوب والمولوتوف والغاز المسيل للدموع طال «الليسيه» ومدرسة القربية المجاورة لها.. تجديدات حاولت إنقاذ ما تبقى من المدرسة العريقة، وطلاب قرر أولياء أمورهم نقلهم إلى مدارس أخرى بعيدة عن مسرح الأحداث، ومعلمون الألم يعتصر قلوبهم لما وصل إليه الحال، أشهر قليلة وعادت الدراسة من جديد، احتفل متظاهرون بالذكرى الثانية لثورة 25 يناير، ولكن بطريقتهم؛ تسللوا داخل البناية العريقة، فأخذوا يبعثرون محتوياتها، وسط ترقب من رجال وزارة الداخلية الذين كانوا يشاهدون المنظر من أعلى مدرسة القربية وكأنه فيلم سينمائى دون تدخل فى تفاصيله، لحظات مرت رشق فيها المتظاهرون قوات الأمن بالطوب والمولوتوف، كر وفر، إلقاء واستقبال، هكذا كانت الحالة، أصوات انفجارات، شاب لم يتعد عمره العشرين يقبض بيديه على «أوكورديون» أحمر اللون يُعلقه على كتفيه، وآخر يفرح بما اقتنص من أجهزة كمبيوتر يحملها بين يديه، وثالث انشغل بإلقاء كتب المكتبة الأثرية على الأرض ثم احتفل بإحراقها، وأخير يراقب جلال المشهد.. دقائق وتحول المبنى الذى تم ترميمه مؤخراً إلى كتلة من النيران، بينما احتفل متظاهرون بغنائمهم تاركين وراءهم صرح العلم ينهدم رويداً رويداً حتى خار على عروشه وأعمدته، حتى السلالم لم يعد لها وجود.
على بعد أمتار وجدت مدرسة حكومية، يكسوها نبات اللبلاب، نوافذها المصنوعة من خشب الأرابيسك تُصقلها عتاقة وقِدماً، فورمات الجبس تُزينها، ما زالت سليمة وكأنها ما زالت مشيدة قريباً، تماثيل رومانية، وباب حديدى مُغلق بالجنازير الحديدية، ولافتة تعلوه «مدرسة القربية الإعدادية بنين».. رجل فى منتصف الأربعينات، يحوم حول المدرسة، خالد عبدالسميع يقف أمام أسوار مدرسته.. الرجل الوحيد الذى يرتدى زيا مدنيا وسط جحافل رجال الشرطة وجنود الأمن المركزى، يتلقى تليفونات عديدة يستعلم من خلالها: «هوه النهارده إجازة؟ طيب باب المدرسة مقفول ليه؟!».. 8 سنوات قضاها مدرس الإنجليزية تحت تلك الأسقف الأثرية: «المكان يحزن الواحد»، يقولها بشجن قبل أن يوضح: «دى المرة التانية اللى تتعرض فيها المدرسة للضرر، وكل ده بسبب وزارة الداخلية، كانت الأنقى والأطهر بين كل المدارس»، هكذا يصفها «عبدالسميع»، «أول مرة جينا لقينا جميع الأجهزة متكسرة وصرفنا عليها من جيبنا بس للأسف ادمرت تانى»، فالداخلية لهم رجال يحمونها، أما حصون العلم فهى الضحية، فى منتصف شارع نجيب الريحانى تقع المدرسة، تحولت إلى ثكنة عسكرية.. بائعون يمتلكون عربة للفول مهمتها البيع للجنود يعتلون السور الخارجى ثم يقفزون بداخلها ليضعوا «شمسية» وبعض معداتهم داخل المدرسة الخاوية، يعلق «عبدالسميع»: «للأسف بقت خرابة».
قصر مهيب، طالته يد العبث، لم تقهره السنون، ولم يفلح معه زلزال -هز أركان مصر فى تسعينات القرن الماضى- فيما شوهته عقول لا تعى للجمال معنى، ولا تعرف للتراث سبيلا، هنا مدرسة الفلكى، لم يبق من الكيان ما يشير إلى كونه دارا للعلم سوى تلك الكلمات الملصقة على أسواره: «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد.. قُم للمعلم وفه التبجيلا...»، فيما كان واقعه الأليم يشير إلى أن المكان أصبح مأوى للحيوانات الضالة، رغم ما خبأته ذاكرة التاريخ لذلك القصر الذى شيده «محمود باشا الفلكى» -رائد علم الفلك الأثرى، أحد أبرز الفلكيين العرب فى العصر الحديث- فى العام 1876.
تحفة فنية تتلألأ إبهارا أضحت خرابا، فالانتهاكات قِبل جدرانها تتوالى، ولا يهم إن ضاع فصل وراء الآخر، فالأبقى هو «هيبة الدولة»، وفى رواية: «حماية المنشآت»، من أمام ذلك الباب الضخم يقف الأستاذ «مسعود عبدالظاهر»، أستاذ الرياضيات، يرثى حال بيته الثانى بأسى بيّن، فناء كبير يملؤه ركام وتعلوه بقايا سقوف تدلت من عل تشير إلى وجود أدوار ثلاثة لفصول مدرسية تلاشت بفعل الدمار الذى حل بالمكان: «المبنى الرئيسى ده كان 14 فصل، وفى أحداث محمد محمود الأولى اتنهبت وبعدين تم حرقها بالكامل»، خلال تلك الأحداث التى وقعت قبل عام وبضعة أشهر كانت المدرسة تغير ساكنيها من طالبات فى عمر الزهور إلى جنود القوات المسلحة، فقد اتخذت السلطة الحاكمة حينها من نبراس العلم معسكرا لها: «الجيش كان بيعمل عرض عسكرى هنا كل يوم»، وقتها كانت الأسوار الخرسانية موجودة عند بداية الشارع المطل على شارع «محمد محمود»، داخل الدور الأرضى للمدرسة يقبع حمام «ساونا» مغلف بزجاج بلورى بألوان السماء السبعة، بات حطاما، تجاوره بقايا مكتبة كانت تحوى كتبا أثرية وقصاصات تحمل تاريخ أمة، أضحت أثرا بعد عين، عروق الخشب المقوى لم تتمكن من الصمود جراء الانتهاكات المتكررة: «كان نفسى أدخّل الناس اللى بتحتفل بذكرى محمد محمود هنا عشان يعرفوا إيه اللى بيحصل وسطهم من دخول مندسين»، السياسة لم تغب عن أجواء المكان، فها هى كشوف لجان انتخابات البرلمان معلقة على أحد الفصول الكائنة بحوش المدرسة التى تعمل بكثافة 9 فصول بدلا من 16 بعد حريق المدرسة، قبل شهور عاينت هيئة الأبنية التعليمية المكان وأخبرت مدير المدرسة بأن إعادة ترميمه يحتاج إلى 3 ملايين جنيه، فى الوقت الذى ردت فيه وزارة التربية والتعليم: «نجيب منين؟».
أمام سبورة متفحمة ينظر بأسى كعاشق فارق معشوقته، يتلمسها بحنو بعدما ظلت ونيسته 21 عاما، قبل أن تلتهمها نيران الفوضى، يقف الأستاذ «علاء رشدى»، مدرس الدراسات الاجتماعية، داخل فصل «3/1» ممسكا ببقايا تلك الخريطة التى نجت من المحرقة بأعجوبة، شاهدة على تطور الموسيقى فى العصور الفرعونية، كُتِب أعلاها «وزارة المعارف»، تعود لبداية القرن العشرين، فيما تفحمت لوحة مزخرفة بآيات من الذكر الحكيم: «ألَا بذكرِ اللهِ تطمئنُّ القلوبُ»، يوم 25 يناير 2013 كان إيذانا بهجوم جديد على المكان ليبدد ما تبقى من علامات: «الموضوع مدبر، اللى بيعمل كده ناس مدربة مش مجرد شغل عشوائى»، يقولها الأستاذ أنور محمد، سكرتير المدرسة، من أمام الغرفة التى كانت مخصصة لشئون الطلبة والتى اختفت ملامحها بفعل نهب محتوياتها وإضرام النار فى جدرانها، «تخيل شوية البلطجية سرقوا مواسير الميه وهما ماشيين عشان منعرفش نطفى الحريق»، سلم جانبى يبدو أنه معد لخادمى القصر العتيق، هو الوحيد الموصل لأعلى المكان المهدم، فيما تتعثر أقدام الحاضرين ببقايا أرقام جلوس طلاب مُزقت منها الصور، عامان والمكان شاهد على الدمار، فيما تصبر الحاجة أم عماد، «الدادة»، نفسها بكلمات الحمد للقدير، بوجه أسمر من روح النوبة تحكى بقلب راضٍ رغم الأسى البادى لغلق باب رزقها الأوحد: «أنا باكل عيش من هنا، بس المدرسة حالها يحزن.. والطلبة ملهمش نفس للتعليم بعد اللى حصل فى المدرسة».
أخبار متعلقة
«رمضان» البواب «لو يوم عدى علينا من غير ما نشم غاز.. بنبقى خرمانين»
طلعت مطالباًب«حزب الرغيف» بقالى شهر مامسكتش 100 جنيه
كره "أحمد " الشرطة و الجيش و الثوار بعد حرق "الكشك" 3 مرات
عبده السريح: «اصبر على جار السو يا يرحل.. يا تيجى مصيبة تشيله»
«أموت أنا.. والداخلية تعيش»


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.