كيف لدولة ذات تاريخ عريق فى العيش المشترك واستيعاب المغاير والمختلف أن تصل إلى مرحلة من التشدد والانغلاق بحيث ترى فى المغاير الدينى والطائفى عدواً ينبغى التضييق عليه وإرغامه على التخلى عن هويته؟ كيف لدولة ثقافتها بحر متوسطية استوعبت حضارات وثقافات مختلفة وصهرتها فى بوتقة الوطنية المصرية يصل بها الحال إلى درجة متقدمة من التشدد ورفض المختلف بل التطاول على عقائده ومقدساته؟ كيف لدولة كانت حتى ستينيات القرن الماضى أقرب إلى مجتمعات شمال المتوسط الأوروبية شكلاً وموضوعاً، تنقلب رأساً على عقب وتصبح صورة من مجتمعات بدوية صحراوية منغلقة ومتشددة يسرح فيها التشدد والغلو وتنتشر فيها الخرافة وتضيق بكل مغاير ومختلف وتدفع به دفعاً للتفكير فى المغادرة بحثاً عن حياة هادئة فى مجتمعات غريبة أو غربية تقبله على اختلافه وتنوعه؟ فى الحقيقة ما جرى فى بلادنا هو محصلة طبيعية لعملية التنشئة التى جرى اعتمادها منذ مطلع سبعينيات القرن الماضى مع تسلم السادات مقاليد الحكم، عملية غرست التطرف والتشدد والغلو فى نفوس المصريين وجعلتهم ينظرون للأديان والعقائد من أرضية إسلامية فقط، لا حساسية لديهم فى تناول عقائد ومعتقدات ومقدسات المغايرين، وهى التى تشكل اللبنة الأولى للعنف والإرهاب باعتبارها تمثل المكون الأول من بين ثلاثة مكونات للعنصرية وهى المكون المعرفى: ويتمثل فى المعتقدات والأفكار والتصورات التى توجد لدى أفراد عن أفراد آخرين أعضاء جماعة معينة وهو ما يأخذ صورة القوالب النمطية Stereo Types والتى تعنى تصورات ذهنية تتسم بالتصلب الشديد والتبسيط المفرط عن جماعة معينة يتم فى ضوئها وصف وتصنيف الأشخاص الذين ينتمون إلى هذه الجماعة بناءً على مجموعة من الخصائص المميزة لها. ويلاحظ أن العرق والدين والقومية تشكل أبرز الفئات التى تتعرض للقولبة النمطية لأنها أكثر الفروق الاجتماعية وضوحاً وأكثرها مقاومة للتغيير. الثانى هو المكون الانفعالى: وهو بمثابة البطانة الوجدانية التى تغلف المكون المعرفى، فإذا افتقد الاتجاه مكونه الانفعالى يصعب وصفه بالتعصب. الثالث هو المكون السلوكى: وهو المظهر الخارجى للتعبير عما يحمل الفرد من مشاعر وقوالب نمطية ويتدرج هذا المكون إلى خمس درجات: أ- الامتناع عن التعبير اللفظى خارج إطار الجماعة على نحو يعكس سلوك كراهية دفينة. ب- التجنب: أى الانسحاب من التعامل مع المجموعة أو المجموعات الأخرى رفضاً لها، وهو ما نشهده فى مجتمعنا اليوم من تعاملات مع الآخر الدينى والطائفى. ج- التمييز: ويمثل بداية أشكال تطبيق التعصب الفعال، أى السعى إلى منع أعضاء الجماعات الأخرى من الحصول على مزايا أو تسهيلات أو مكاسب سواء على نحو رسمى أو واقعى. د- الهجوم الجسمانى: أى الاعتداء البدنى على أعضاء الجماعة أو الجماعات الأخرى. ه- الإبادة: وتمثل المرحلة النهائية للعداوة والكراهية وتجسد قمة الفعل العنصرى وتعبر عن نفسها فى شكل مذابح جماعية بناءً على أساس الانقسام أو التمييز. من هنا يبدو المكون المعرفى، أى الأفكار والمعتقدات، هو الأهم والأخطر فى منظومة التطرف والتشدد، فهو الذى يوفر اللبنة الأولى على طريق التشدد والتطرف والتعصب الذى يتدرج على خمسة مقاييس تصل فى نهايتها إلى جرائم الإبادة للمغاير. لكل ذلك لا بد من إعادة نظر شاملة فى مجمل أدوات التنشئة فى بلادنا وتحديداً مناهج التعليم فى القطاعين المدنى والدينى (الأزهرى) والخطاب الدينى ودور وسائل الإعلام من أجل نشر قيم التسامح، وقبول التنوع والتعدد والاختلاف، وتربية النشء على قاعدة احترام المعتقدات والمقدسات كما يراها المؤمنون بها، أى أصحابها، ومن ثم احترام كل ما هو مقدس للآخر وفق ما يراه ويحدده هو لا كما تقول لى قناعاتى الدينية الذاتية. إنها عملية طويلة ومعقدة تتطلب أولاً اتخاذ القرار على أعلى مستوى ببناء دولة المواطنة والقضاء على كل أشكال التمييز، ثم تبدأ بعد ذلك عملية إعادة صياغة دور أدوات التنشئة المختلفة وتنتج أجيالاً جديدة تستعيد صورة مصر المدنية الحديثة، القرار بيد من بيده القرار ودون إرادة منه فسوف ندور فى نفس الحلقة المفرغة التى تدور فيها البلاد منذ أربعة عقود.