فى أواخر الثمانينات عملت لأكثر من عامين، أثناء دراستى الجامعية فى فيينا، فى مجال العمل الاجتماعى. كان عملى فى أحد المعاهد المدعومة من الدولة، التى كانت تعيد تأهيل الأجانب الكبار نسبياً فى السن، لينتظموا فى مجالات العمل المناسبة لهم فيما بعد، أو ليستكملوا دراسات أو مهارات أخرى فى تخصصاتهم، كان عليهم أولاً إتقان اللغة الألمانية من قِبَل معلمات ومعلمين نمساويين، مع تلقى دروس للغاتهم الأم بالموازاة؛ ولأن البعض منهم لم يكن على معرفة معقولة بقواعد لغته الأم أو لا يعرف قواعدها على الإطلاق -وبهذا يصعب عليه أن يتعلم اللغة الجديدة- صار جزءاً من عملى أن أكون «معلماً مساعداً» للغة العربية للقادمين والقادمات من البلدان العربية (قصدت «معلم مساعد» حتى لا تختلط بكلمة «مدرس مساعد» الجامعية). الجزء الثانى من التدريس الاجتماعى، الذى كنت أقوم به، كان يتعلق بشرح بعض القوانين الأساسية المهمة للطلاب، مثل قوانين السكن والإقامة والعمل والدراسة وغيرها من موضوعات اجتماعية تتعلق بالتاريخ والسياسة والعادات والتقاليد. فى هذا الجزء الأخير كنا نستعين بأفلام وثائقية. كنت أذهب لمؤسسة تمتلك أرشيفاً ضخماً من الأفلام الوثائقية، وأستعير دون مقابل ما أراه مناسباً لهم، فى البيت كنت أعيد رؤية الفيلم كاملاً بمعونة زوجتى، لتوضح لى ما يتعلق بأسماء أو أحداث أو تفاصيل ضرورية للرد على أسئلة المشاركين أثناء العرض أو بعده. * ذكرنى هذا الأمر بأهمية الأفلام الوثائقية عموماً فى مجال التعليم فى النمسا، ففى كل المدارس، وفى كل فصل دراسى، يتم عرض عدد لا يستهان به من الأفلام الوثائقية التاريخية، والأفلام العلمية المتعلقة ببيئتهم من غابات وبحيرات وأنهار وجبال وجليد، والبيئة البعيدة من بحار وصحراء، وتتجاوز الوثائق إلى أشياء كثيرة تتعلق بالكواكب والبراكين والزلازل وغيرها. * فى النمسا أيضاً لا بد لتلاميذ المدن -حتى سن الرابعة عشرة تقريباً- من زيارة أساسية إلى الريف؛ للتعرف على نوعية الحياة هناك عن كثب، ورؤية الغابات والحيوانات والطيور فى حياتها الطبيعية، والعكس يحدث أيضاً، وهو زيارة كل تلاميذ القرى للعاصمة والتعرف عليها، وعادة ما تكون مصحوبة ببرنامج خاص لهم لزيارة المتاحف التى قد تعرض فى هذا التوقيت معارض إضافية تناسب أعمارهم، إضافة للذهاب إلى السينما أو المسرح أو الكونسيرت، وأيضاً زيارة البرلمان والجلوس فى الدور العلوى لمتابعة ومشاهدة الجلسات الحية على الطبيعة. * من السادسة إلى الرابعة عشرة من العمر يتحتم على التلاميذ فى كل فصل دراسى الخروج إلى الطبيعة ليومين بصحبة مشرفين ومشرفات، وأحياناً أعضاء من العائلة لو رغبوا فى صحبة أطفالهم الصغار، لبرنامج شامل للتجول فى الطبيعة على الجبال وفى الغابات ومشاهدة القصور القديمة والتعرف على الأطلال البائدة وشرح تاريخها بالتفصيل، فى برنامج مكثف وشرح يروى عطش وفضول الصغار ويملأهم بمعارف حياتية ضرورية؛ فليست المدارس فقط هى التى تصنع العلم. هناك أيضاً برنامج إلزامى من العاشرة حتى الرابعة عشرة لتعلم السباحة خلال فصل دراسى كامل، لمن لم يسبق له تعلم السباحة، وفى الشتاء هناك الكثير من الترفيه الجماعى على الجليد سواء على الجبال أو على البحيرات المتجمدة أو فى صالات التزلج. * أقول هذا لأننى أثق أنه فى المستقبل البعيد سيوجد فى عالمنا العربى وزراء تربية وتعليم أفضل ألف مرة من الحاليين، ممن سيدركون أننا نمتلك تاريخاً عريقاً جديراً بالدراسة، وعباقرة صغاراً يستحقون الرعاية، ولدينا من الطبيعة ما يمكن أن يخلق نفوساً مهذبة تحب بيئتها وتعشق بلادها بهوية حية وأصيلة، وليس ترديداً أجوفَ خلف أعلام ملونة! (فيينا، فى 23-1-2013)