ارتبطت أزمة الفقه الإسلامى بتدهور عام شمل الثقافة العربية عموماً منذ أواخر القرن الخامس الهجرى وحتى اليوم. لم تكن تلك الأزمة إلا انعكاساً لأزمة أعم وأشمل على المستوى الاقتصادى والاجتماعى؛ تمثلت فى سيادة نمط الإنتاج الإقطاعى كافة أرجاء العالم الإسلامى اقتصادياً وتدهور الطبقة الوسطى على الصعيد الاجتماعى. تعاظم هذا المرض بعد سيطرة النظم العسكرية على مقدرات السياسة عن طريق الغلبة؛ فانبرى «فقهاء السلطان» لتبرير وتسويغ حكم «العسكرتاريا» والدفاع عن مشروعيته. تضافرت تلك الأسباب ليدخل العالم الإسلامى طور «الانحطاط» سياسياً وحضارياً؛ حسب رأى ابن خلدون حين تحدث عن «خراب العمران». لعل من تجليات تلك الظاهرة ما أصدره فقهاء السلطان من فتاوى وأحكام بتحريم دراسة العلوم الدنيوية وتجريم المشتغلين بها؛ لكونها تدخل فى إطار «العلم غير النافع»! أما العلوم الدينية فقد تدهورت بالمثل؛ خصوصاً علم الفقه؛ حيث أغلق باب الاجتهاد وفشى التقليد وحل الأثر محل النظر. وانحصر العلم فى مرويات جافة فى صور متون وشروح ومختصرات، واختُزلت مسائله فى أراجيز شعرية يحفظها الفقهاء عن ظهر قلب ويطبقها القضاة دونما اعتبار للمصالح المرسلة ومقاصد الشريعة. من مظاهر الانحطاط أيضاً؛ ما جرى من تأجيج الصراعات الحادة بين أصحاب المذاهب الفقهية إلى حد الاتهام بالكفر وسفك الدماء. وانصرف الفقهاء لطلب المال والجاه، وانغمس الكثيرون فى الملذات الدنيوية. وليس أدل على ذلك من اشتغال بعضهم بالسياسة فى بلاطات الحكام؛ خصوصاً فقهاء المالكية فى بلاد المغرب برغم تحريم الإمام مالك نفسه لذلك؛ وهو ما عبر عنه أحد الشعراء بقوله: أهل الرياء لبستموا ناموسكم .. كالذئب أدلج فى الظلام القاتم فملكتم الدنيا بمذهب مالك.. وقسمتم الأموال بابن القاسم!! وكان ابن القاسم من شيوخ المالكية الذين خدموا فى بلاط «المرابطين»؛ فحاز الضياع الواسعة وسخر العبيد لفلاحتها، كما نكل بالفقهاء المجددين الذين اعتبروا «التقليد بدعة وصفة ذميمة استطار شرها، وعم ضررها». بالمثل ندد ابن خلدون بفقهاء السلطان وذكر أن «طرائقهم فى الفقه غريبة... ولم يحفل الجمهور بمذاهبهم بل أوسعوها جانب الإنكار والقدح». لعل من أشهر فتاوى وأحكام فقهاء السلطان؛ ما تعلق بتكريس الاستبداد والطغيان. فقد أفتى «الغزالى» بأن الحاكم المتغلب «ظل الله فى أرضه؛ ويجب على الخلق محبته ولزوم طاعته (حتى لو كان ظالماً) درءاً للفتنة». وأفتى «ابن جماعة» بأن الحاكم المتغلب «إذا ما قهر الناس بشوكته وجنوده بغير بيعة أو استخلاف؛ انعقدت بيعته ولزمت طاعته ولا يقدح فى ذلك كونه جاهلاً أو فاسقاً فى الأمر». هؤلاء الفقهاء هم الذين قال عنهم «الفرج بن الجوزى»: «من تلبيس إبليس مخالطتهم الأمراء والسلاطين ومداهنتهم وربما رخصوا لهم فيما لا رحضة لهم فيه؛ لينالوا من دنياهم عرضاً؛ فيقع بذلك الفساد». ولم يخطئ الإمام الخمينى حين دمغهم بنعت «فقهاء الحيض والنفاس». إنهم أيضاً هم الذين يتخذهم «الإسلامويون» المعاصرون مرجعيةً لهم، فهم فى نظرهم «السلف الصالح» كما يعولون على فقههم فى تطبيق الشريعة الإسلامية. لذلك؛ فلا غرابة فيما جرى من مواقفهم المخزية إزاء ثورة 25يناير؛ حين اعتبروا الثوار أهل بدع وفتن وضلال لخروجهم على «ولى الأمر».. !! والأنكى تحالفهم مع «العسكر» لإجهاض الثورة. ناهيك عن نقض العهود، وافتراء الكذب، والعمالة لدول عربية رجعية وأخرى أجنبية؛ من أجل الوصول إلى السلطة؛ بذريعة تطبيق شرع الله. إنهم -فى التحليل الأخير- سدنة «تلبيس إبليس» وجنوده الناشطون فى مشروعات «البيزنس» وإحياء فقه «جماع الوداع» وآداب المرحاض ونكاح الجان ورضاع الكبار!!