يجلس المشاهد متحيراً أمام الأصوات العالية التى تتزايد وتيرتها غضباً وانفعالاً فى برامج التوك شو، فى ظل تبادل الضيوف وخصومهم والمذيعين أحياناً للاتهامات، ممزوجة بمفردات وتعبيرات نابية، قد تصل إلى السب والقذف، وينتهك حرمة الحياة الخاصة لمواطنين عاديين أو شخصيات عامة، وكل ذلك من أجل تقديم محتوى مثير، تتضاعف معه نسب المشاهدة والمتابعة، فى حين تغيب عن الشاشات وخططها البرامج التنموية التى تسهم فى تطوير وبناء الإنسان وتثقيفه. من هنا جاء عزوف الكثير من المشاهدين عن متابعة الأخبار، إما لعدم ثقتهم فى المحتوى، أو رغبة فى مساحة من السلام، بعيدة عن النزاع والصراعات، ومع تلك الحالة ظهر حنين المشاهدين لما كان يقدم من برامج تليفزيونية فى الماضى، عندما كان يلتزم المذيع ب«تون» هادئة مهذبة، ولغة عربية صحيحة، وابتسامة راقية، وهو يقدم برامج قائمة على معلومات وقيم. «يونس»: «التوك شو» تحول إلى «خناقات وردح على الهواء».. و«الشريف»: خسائر ال80% من القنوات تفضح أجنداتها ومموليها حول أزمة الإعلام الحالية، يقول الدكتور مروان يونس، مستشار التخطيط والإعلام السياسى، إن ما يطرح على شاشات الفضائيات حالياً، هو الإعلام الخبرى فقط، وباتت تغلب عليه الإثارة واستفزاز المشاهد، وتحول إلى «خناقات على الهواء»، و«وصلات من الردح»، فيما غاب الإعلام التنويرى والتثقيفى بكل صوره، فلم تعد الشاشات تعمل على تطوير وعى المشاهدين. وبعد أن استشعر أصحاب القنوات الفضائية عزوف المشاهدين عن متابعة الأخبار، بدأ اهتمامهم بتقديم برامج ترفيهية، فأصبحت كل قناة تقدم أكثر من برنامج ترفيهى لكنها دون المستوى، من قبيل الضحك على المشاهدين وليس إضحاكهم والترفيه عنهم. ويضيف «يونس»: «الإعلامى أصبح يتفاخر بتوجهاته السياسية، وليس بموضوعيته، ولم يعد يناقش الأخبار والموضوعات بطريقة تحترم عقل المشاهد، ما فتح الساحة أمام الاستقطاب السياسى، وأمام حبك المكائد، والتحريض على العنف، وأصبحت سمة البرامج تشويه الخصوم، سواء باستخدام معلومات مفبركة أو معلومات صحيحة لكنها تمس الحياة الشخصية للمستهدفين، فهناك انتهاك للخصوصية بل والأعراض على الشاشة بشكل مشين، ومنذ عدة سنوات كان الإعلامى يهتم بتبرير موقفه مؤكداً أن لديه مستندات، حتى وإن تهرب من إظهار تلك المسندات، أما الآن فأصبحت الخصومة مشينة وواضحة وشخصية، والغرض منها تحقيق مكاسب مادية». «الإعلام أصبح نسخة مصغرة من السوشيال ميديا»، هذا ما يؤكده «يونس»، مشيراً إلى أنه بات ينقل ويتداول معلومات متدفقة دون مراجعة أو تدقيق، وأصبح محتواها مفتوحاً على «الفبركة» والطرق غير الموضوعية فى الطرح والتناول، وأصبحت المعلومات تقدم بطريقة سريعة دون تعمق، ولا تسلسل ولا سياق منطقى، وكأن المحاور يحاول أن يملأ «ساعات هواء» فقط. ويشدد «يونس» على أن الوضع الحالى لا يوجد له مثيل فى أى دولة بالعالم، وهذا تطور طبيعى، بعد أن توقف الإعلام عن دوره فى الحشد المعنوى للناس، خصوصاً فى ظل الأزمات التى يمر بها الوطن، فلم تعد هناك عملية تنظيمية توضح الإطار العام لجودة المادة الإعلامية المقدمة، ومن الصعب أن تمارس مصر دورها الإقليمى كما يجب فى الوقت الذى لا تمتلك فيه قناة إخبارية واحدة بإمكانها أن تنافس القنوات الإقليمية الأخرى، مثل «الجزيرة والعربية وسكاى نيوز»، وغيرها. ويتابع: «كلنا نطالب بحرية الرأى والتعبير والإبداع بكل صوره، ولكن المحتوى الذى يقدم دون المستوى، ويحمل أنواعاً كثيرة من الغش وخداع المشاهد، لذلك من الواجب وضع خريطة إعلامية، ومواثيق، وأن يكون هناك مجلس إعلامى، أو وزارة مسئولة عن متابعة الخطوط العريضة، التى لا يصح أن يتخلى عنها العمل الإعلامى أو يتخطاها، لأن ما يحدث حالياً كارثة، خاصة أن الوجوه القديمة لم تختلف، واكتفوا بتلميع وجوههم وركوب الموجة». من جانبه، يرى الدكتور سامى الشريف، أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، أن الوضع الحالى فى الإعلام سيئ للغاية، وينتقل إلى الأسوأ بلا توقف، فأصبحت القنوات لا تجد سوى 20 ضيفاً يظهرون على جميع المحطات التليفزيونية، التى تتناوب عليهم، مع أنهم معدومو الخبرة والمعرفة، إلا أن هناك حالة من الانسجام والاندماج بينهم وبين الإعلاميين فى تقديم «الطبخة»، من حيث علو الأصوات والصياح دون هدف إلا للإثارة والتشويق. يضيف «الشريف»: «الموضوعات المقدمة على شاشات التليفزيون أهملت الجانب التنموى فى الإنسان، وكيفية مواجهة مصاعب وقضايا إنسانية معينة، واكتفت بالدخول إلى سجالات وخلافات، ليس للمُشاهد علاقة بها، وطريقة تناول الموضوعات، وأسلوب (اللف والدوران) أوصل المشاهدين لحالة من الارتباك فى التفكير وكل ذلك بسبب غياب المهنية، وغياب المتخصصين عن تقديم المحتوى، وغياب القوانين التى تحكم الأداء الإعلامى، فوصلنا لحالة صعبة من التردى». ويشير «الشريف» إلى أن 80% من القنوات الفضائية، لا تحقق أى أرباح، وإنما تحقق خسائر فادحة، وبالرغم من ذلك مستمرة، متابعاً: «تلك الخسائر هى مؤشر خطر حول الأسباب الحقيقية لوجود تلك النوعية من القنوات الفضائية، ما يشير إلى أن هناك أجندات أخرى وراء استمرارها، كما تستدعى التفتيش عن مصادر وجهات تمويلها التى لا تأبه بالخسارة المادية بقدر ما تستهدف الدخول فى (لعبة سياسية مع النظام)، فبعضها يمولها رجال أعمال مصريون وغير مصريين، وهناك أخرى ممولة من دول غير معلن عنها بصراحة». ويستطرد «الشريف»: «معظم الإعلاميين فقدوا مصداقيتهم خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، حيث كان تغيير الأنظمة يجرى بصورة سريعة، فتمكن المشاهد من كشف النفاق الإعلامى، وأدرك أن مقدمى البرامج لعبوا على كل الحبال، وأكلوا على كل الموائد، وبالتالى تلك الوجوه عليها أن تتغير خلال الفترة المقبلة، وأن تتحول توجيهات الرئيس عبدالفتاح السيسى فى خطاباته إلى أفعال، بإنشاء مجلس وطنى للإعلام، يضع الضوابط اللازمة لممارسات المهنة دون المساس بحرية الرأى والتعبير».