الأستاذ الدكتور أحمد عكاشة رئيس الجمعية المصرية للطب النفسي والرئيس السابق للجمعية العلامية للطب النفسي قام عالم سلوك الحيوان «ديزموند موريس» بشرح سلوك الحيوان فى حديقة الحيوان مقارنة بسلوكه فى الغابة، عندما تحرمه من الحرية وتضعه فى قضبان من الحديد وتأسره فى قفص كتسلية للمترددين على حديقة الحيوان.. حينئذ يتغير سلوكه كلياً ليصبح عدوانياً عاجزاً يائساً، بل يهجم أحياناً على من يُطعمه، وهذا يناقض تماماً سلوكه فى الغابة؛ حيث يتميز بالشجاعة ولا يهاجم فريسة إلا إذا كان جائعا ويتمتع بوجوده فى جماعته ويتوحد معهم. كما أوضح أيضا «ديزموند»، فى كتابه، أن الحيوانات تميل إلى العدوانية إذا زاد تكدسها فى مكان واحد وفقدت مساحاتها الشاسعة، وإذا قمنا بتطبيق هذا على المجتمعات البشرية التى تعانى التكدس السكانى فى مساحات ضئيلة من الأرض لوجدنا أنهم يفتقدون الإحساس بالحرية والتمتع بالخصوصية، ويعتبر هذا من العوامل المهمة لظهور العدوانية والأنانية، فيتحول الإنسان الذى يوصف بالطيب إلى طاغية وقاسٍ، وقد يحدث ذلك تحت ضغط أخلاق وسلوك الجماعة مثل العنف الذى يحدث نتيجة الازدحام فى الاعتصامات والمظاهرات وفى الأماكن العشوائية. ويذكّرنى ذلك بالتجربة التى قامت بها جامعة ستانفورد لدراسة ردود فعل الناس العاديين فى وضع كوضع نزلاء وحراس السجون، وذلك بتصميم بحث يتضمن وضع مجموعة من المتطوعين فى ظروف محاكية لظروف السجون، بعضهم يقوم بدور السجناء، وبعضهم يقوم بدور الحراس، وذلك من أجل خلق ردود فعل نفسية متباينة من نوع: مشاعر القوة والعجز والسيطرة والاضطهاد والإشباع والإحباط والحكم الاستبدادى ومقاومة السلطة. وأثبتت التجربة أن حرمان الفرد وتجريده من كل حقوقه الإنسانية بعزله فى زنزانة مغلقة يجعلانه عرضة للتغيير فى السلوك، مع الشعور بالعجز واليأس والانهيار النفسى. كما أظهرت أيضا أن السجان أو الحارس، حين مُنح القوة المطلقة، بدأ فى إصدار الأوامر وتعذيب السجناء، مما جعله يتعلق بالتجربة ويصر على الاستمرار فيها. ومن هنا نستخلص أن من يمارس السلطة المطلقة دون مساءلة أو ردع تتغير شخصيته ويصبح توحده مع هذه السلطة المطلقة هو بمثابة شهوة قوية تجعله لا يستطيع العودة إلى طبيعته الأولى؛ لذا شددت كل دساتير العالم على ضرورة احترام حرية الفرد وتبادل السلطة حتى تنهض الأمم ويشعر مواطنوها بالكرامة والعزة؛ حيث يوجد الكثير من شعوب العالم مغلوبة على أمرها تعيش متغلغلة فى سجن كبير يعانى فيه المسجون ويلات القهر، بينما يتمتع فيه السجان بسلطته المطلقة. ها هى سلطة تجريبية وأشخاص خالون من الانحراف النفسى، ومع ذلك نشأت لديهم «متعة» خبيثة من ممارسة السلطة والتسلط على مقهورين خانعين، أليست هذه صورة صارخة لنفوذ السلطة على النفوس الإنسانى وفضحا لشىء من آلية تحوّل الكائن الإنسانى إلى وحش أعمى يعربد استمتاعا بالسلطة والتسلط؟ وإذا طبقنا هذه المقالة على الوضع الراهن فى مصر فسنجد أن محاولة قولبة الغالبية بفكر خاص أو عقيدة دينية لا تتبع النص، لكنها تتبع محاولات بشرية للتفسير، سيكون لها تأثير ضار على الصحة النفسية قد يؤدى إلى الاستهانة بالقانون والقضاء والأمن ومحاولة قهر الفرد وإجباره على الخنوع، مما يؤدى إلى العنف.. إن الاتجاه إلى فلسفة الرأى الواحد فى الفاشية والنازية أدى إلى انهيار الأمم. ونستطيع أيضا أن نستنبط من التجربة السابقة أن الوجود فى زنزانة السجن أو المعتقل لمدد طويلة قد يخلق فى بعض الشخصيات القدرة على التسامح والمثابرة والصمود والتعاطف والرحمة مثل شخصيات سيدنا يوسف ومانديلا وغاندى، وفى شخصيات أخرى قد يؤدى إلى الرغبة فى الانتقام والكراهية والحقد، بل قد يذهب لأبعد من ذلك ليصل إلى مشاعر لا شعورية فى إيقاع هذا العنف على المجتمع كله. وهذا هو بحق الخطر الأكبر على أى أمة! إن التسامح والحب والأخلاق هى بمثابة حجر الارتكاز لنهوض أى أمة، أما الشماتة والانتقام والحقد فتؤدى إلى انهيار رأس المال الاجتماعى (أى الحميمية وحب الآخر) وفقد روح ملحمة المواطنة التى حدثت خلال ال18 يوماً الأولى من ثورة 25 يناير 2011. إن التوحد مع المعتدى واتباع المقهور لسلوك القاهر عملية لا شعورية يتبعها من تعرض للظلم والتعذيب، ومن الأمثلة: توحد إسرائيل مع النازى فى معاملتهم للفلسطينيين، بل إن بعض من هم فى فتح أو حماس وتعرضوا للتعذيب والاعتقال يسلكون سلوك الإسرائيليين فى معاملة بعضهم. إنه من الواجب على الطبيب النفسى الذى يشعر بفداحة تدهور الصحة النفسية للمواطن المصرى أن يحذر من مأساة ما ينتج عن التغير فى الشخصية من جرّاء السجن أو من جرّاء الإصرار على الإذعان لفكر واحد والتوحد مع من اعتدى عليهم. دعونا نتشاور، نتسامح، ونتحاور من أجل مصلحة وطننا مصر وليس من أجل مصلحة جماعة أو تيار أو حزب لنجعل مصلحة الوطن فوق الجميع.