مرت ذكري وفاته هكذا مرور الكرام دون تذكره أو تكريمه تخليدا لذكري رحيله الثالثة والستين وكأنه ما كان في يوم من الأيام ابنا لهذه البلاد، بل من أنبغ من أنجبت التربة المصرية علي مر العصور، تناساه الإعلام بصورة عجيبه وتجاهله التلفزيون المصري وحكومة قنديل بصورة أكثر غرابة ولو من باب "فذكر فإن الذكري تنفع المؤمنين" التي تجيد الحكومة القائمة اللعب بالسياسة علي أوتارها الدينية للبقاء أطول مدة في السلطة وصولا لبرنامج التمكين المزعوم . وسط هذا الكم الهائل من الأزمات والحوادث والحرائق والكوارث التي تجتاح البلاد، كان لابد من الإستعانة بمنقذ مصر من وعكتها السياسية والاقتصادية والعلمية والاجتماعية، رجل التميز العلمي المذهل ورب البيان والبلاغة والفصاحة، أسطورة القرن العشرين العلمية، أينشتاين هذا الزمان، أكبر عالم طبيعة في مصر والعالم أجمع، بن بطوطة دمياط، العالم المصري الجليل الدكتور مصطفي مشرفة الذي توفي في الخامس عشر من يناير لعام 1950 . رحل عن دنيانا مشرف مصر علي الصعيد الدولي والمحلي، تاركاً وراءه قصة عبقرية مذهلة لأبعد الحدود ونموذجا حيا للنبوغ والإبداع العلمي بداية من المرحلة الإبتدائية مرورا بالبكالوريا ومدرسة المعلمين العليا ودرجة الدكتوراة في الفلسفة وصولا إلي أعلي درجة علمية علي مستوي العالم وهي شهادة الدكتوراة في العلوم من أعرق الجامعات البريطانية في العالم وأصغر الطلاب كذلك وصولا إلي تلك الدرجة العلمية الرفيعة في وقت لا يساوي في حساب الزمن شيئاً . كان بديعاً وبليغا في كلماته طوال عقوده الخمس التي قضاها علي ظهر الأرض فحينما وصل إلي عمادة كلية العلوم، قال "خير للجامعة أن تخرج عالماً واحداً كاملاً أفضل من أن تخرج كثيرون من أنصاف العلماء" فاليوم صار الخريجون أكثر من الهم علي القلب كما يقولون ولكن قلما نجد من بينهم قامة علمية أو اقتصادية أو فلسفية أو ثورية مصرية في عقل ووزن "مشرفة" الذي بعث برسالة إلي سعد باشا زغلول خلال ثورة 1919 يناشده بالعودة إلي مصر للإنضمام إلي قوافل الثوار المصريين المناهضين للإحتلال البريطاني فرد عليه حينها بعقلانية الأب الروحي وقلب الثائر الحق فقال "لسنا في حاجة إلي ثوار بل نحن في أمس الحاجة إلي علماء، نحن نحتاج لك عالما أكثر مما نحتاج لك ثائرا، أكمل دراستك، ويمكنك أن تخدم مصر فى جامعات إنجلترا أكثر مما تخدمها فى شوارع مصر"، فهذا هو الدور الحقيقي لأبناء هذا الوطن، ففهمها مشرفة وأنشأ أول جمعية للحوار في لندن، للتشنيع بالإحتلال البريطاني لمصر . وكان عالم الطبيعة المصري أول من توصل إلي القنبلة الذرية في العالم، حينما أبدي مخاوفه الشديدة مع مطلع عام 1939 ذات يوم في اجتماعه وصديقه محمود فهمي النقراشي باشا فقال إن أخطر ما يواجه العالم خلال الفترة القادمة هو أن يحدث انشقاقا في الذرة، وكان يقصد بذلك القنبلة الذرية التي توصل إليها قبل أن يخترعها الأمريكي كاميتون أرثور في عام 1945، ولقد أضاف نظرياته العلمية في تفسير الإشعاع الصادر من الشمس إلا أن نظرية الدكتور مشرفة في الإشعاع والسرعة عدت من أهم نظرياته وسببا في شهرته وعالميته، حيث أثبت الدكتور مشرفة أن المادة إشعاع في أصلها، ويمكن اعتبارهما صورتين لشيء واحد يتحول إحداهما للآخر ولقد مهدت هذه النظرية العالم ليحول المواد الذرية إلى إشعاعات. ودعي خلال عام 1939 إلي تنظيم أول معرض علمي بجامعة الملك فؤاد "القاهرة" تحت عنوان "مهرجان العلم لتبسيط النظريات العلمية الدقيقة أمام المواطن البسيط الذي لا يفقه كثيرا عن علوم الذرة والنسبية أو الكم والكيف، فضلا عن اقناعه لجمعية علماء الطاقة الذرية ببريطانيا بالقدوم إلي مصر بالأجهزة والمعدات العلمية عبر قطار ذري يحمل كافة علوم الذرة لنقل تلك الخبرات إلي المجتمع المصري. سعي الدكتور مشرفة إلي وضع مشروع علمي كبير لمصر للنهوض بها منذ عشرات العقود وكالعادة أنشأت له الحكومة المصرية "مجلس فؤاد الاول للبحوث العلمية والصناعية" بعد محاولات عديدة من قبله لنهضة مصر العلمية ولكن يبدوا أن جينات التجاهل والإهمال للكفاءات المصرية تتوارث عبر الاجيال، فكما كانت الحكومة تبحث عن جهلاء لتعيينهم بمجلسه العلمي فإنها اليوم تعرقل مشروع الدكتور أحمد زويل التكنولوجي تارة بإسم جامعة النيل وتارة أخري بإسم ضعف الميزانية العامة للدولة. لا يخفي علي أحد أن أول من فكر في إنشاء وزارة خاصة بالإقتصاد العلمي كان مشرفة الذي ذكر أن الطاقة ستفني في العالم خلال سنوات قليلة ومن ثم فلابد من البحث عن بدائل أخري للطاقة، وكانت الطاقة الشمسية هي البديل الأكثر أماناً لذلك فوصف حينئذ بالجنون من قبل الساسة والمسئولين أو كما أطلق عليه الكاتب الصحفي الكبير مصطفي أمين في مقدمة كتاب محمد الجوادي عن "مشرفه بين الذرة والذروة" أنه رجل فقد عقله، إنه يريد أن نستعمل أشعة الشمس بدلا من البترول، وكذلك مطالبته بأن تتحول مصر إلي تصنيع القنبلة الذرية كسلاح للردع بالغازات السامة تلك التي استخدمها الطليان ضد أثيوبيا ولم يتجرأ الألمان في الحرب العالمية الثانية أن يضربوا بها بريطانيا لأن الأخيرة لديها سلاح الردع الكافي لضمان دفاعها. مرت سنوات طويله علي رحيله دون أن نستلهم خبراته وقدراته العلمية في البحث العلمي من خلال أبحاثه العالمية في الذرة أو الميكانيكا العلمية والنظرية والهندسة الوصفية والمستوية والفراغية والتي كان يترقبها العالم بشغف شديد، فضلا عن تراثه الأكبر في العلم والحياة، ومطالبه العديدة بإستقلال الجامعة، واصفا ذلك بروح السخرية التي لديه فقال إن تدخل الحكومة فى الجامعة يحولها إلى مدرسة ثانوية، في عصر كان مليئا بالعظماء النابغين أمثال أحمد لطفي السيد والنقراشي باشا والسنهوري باشا وسعد باشا زغلول والدكتور طه حسين والكثير من القامات العلمية والأدبية والقانونية والإقتصادية والثقافية علي مستوي القطر المصري. "لا أصدق أن مشرفة قد مات، إنه ما زال حيا بيننا من خلال أبحاثه".. هكذا جاءت كلمات عالم النسبية الألماني ألبرت أينشاتين، حينما سمع نبأ وفاة تلميذه النجيب وأحد من ساعده بأبحاثه ودراساته علي تطوير نظرية النسبية العامة، كان قد سبق له أن دعاه للاشتراك في إلقاء أبحاث تتعلق بالذرة عام 1945 كأستاذ زائر لمدة عام، ولكنه اعتذر له بقوله "في بلدي جيل يحتاج إلي".. فهل مثل هذا يُنسي ومتي يتم تدريس سيرة وحياة قمم مصر التي حُبست في معتقلات النسيان علي مدار العقود الماضية؟