إذا كان الشعر بطبيعته يتغنى بأحلام البشر، ويخاطب الوجدان الإنساني، ويترجم أشواق البشر، ومن نلك الأحلام فكرة التسامح التي تبدو جلية عند شعراء الصوفية، والأشعار التي تدعو إلى المثل العليا وإلى التواصل الإنساني، وكثير من القصائد تدعوا إلى فكرة التضامن الإنساني، وهناك كثير من قصائد الحكمة التي تدفع الإنسان إلى الاحتكام إلى العقل، وهناك شعراء كثيرون تغنوا بفكرة السلام منذ زمن المعلقات.. وهنا نتساءل منذ متى وكيف يكون الشعر داعيا للسلام والتعايش والمحبة.. وهل نجح الشعر في تلك المهمة.. وهل تلك النوعية من القصائد تجذب الجمهور.. طرحنا هذه التساؤلات على عدد من الشعراء والنقاد.. في البداية يقول الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة: كان الشعر طوال تاريخه يسعى لتعميق التواصل الإنساني، على مستويات كثيرة، منها على المستوى العاطفي بين الرجل والمرأة، الاهتمام بفكرة التسامح خصوصا عند شعراء الصوفية، وهناك كثير من قصائد الحكمة التي تدفع الإنسان إلى الاحتكام إلى العقل، وهناك شعراء كثيرون تغنوا بفكرة السلام منذ معلقة زهير بن أبي سلمه، وحتى العصر الحديث عند شعراء مثل شعراء المهجر. هناك طبعا طبيعة الشعر تدعو إلى المثل العليا وإلى التواصل الإنساني، وكثير من القصائد تدعوا إلى فكرة التضامن الإنساني، وعلى رأس هذه القصائد أو رأس هذه التيارات قصائد الوفاء للأصدقاء على سبيل المثال، إما بالرثاء أو القصائد التي تركز على المودة والحب، بل أن بعض القصائد تدعو إلى الشفقة بالحيوان، وهناك قصائد كثيرة عن الطفولة، وجوهر التجربة الشعرية في كل العصور خصوصا لدى كثير من الشعراء الكبار تدعو إلى التسامح والتعايش الإنساني والوقوف في مواجهة الشر ومقاومة العدوان، والحفاظ على الكرامة الإنسانية وتمجيد الرموز الإنسانية، التي تدافع عن شرف الإنسان ورفعة الوطن والاستقلال والحرية، وقبل ذلك وبعده، فإن القضية الأساسية التي دعا إليها الشعر، والتي تدعم التعايش السلمي هي تحقيق العدل سواء بين الأفراد أو بين الأمم. ويؤكد الشاعر أحمد سويلم: أن الشعر بطبيعته يترجم أحلام البشر، ولهذا فهو يرسي دعائم التمرد على الواقع والنظر إلى المستقبل الأفضل، ومن ثم فهو يحمل في داخله مخاطبة الوجدان الإنساني بالدرجة الأولى، وهذا الوجدان يترجم أشواق البشر، ويعطي لهم ميوة مختلفة عن أي كائن آخر. ويضيف: إن القصيدة الشعرية هي جزء من وجدان الشاعر وشعوره ومن ثم فإن التكوين النفسي للشاعر يتميز بعناصر الحق والخير والجمال، التي تكون مثلث السلام النفسي والاجتماعي. ومهما كانت لغة الشاعر قاسية على موقف معين، فإن هذه القسوة تحمل في طياتها رغبة دفينة لتغيير الواقع، وحبا لكل ماهو جميل وخير أيضا، ومن ثم فإن غضب الشاعرعبر القصيدة هو غضب إيجابي، من أجل وضع ملامح جديدة لمستقبل الإنسان، والذي يعتمد على الحب والسلام والتعاطف والحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية، وكلها أهداف يمكن للشاعر أن يلوح بها في قصائده، أو يوحي بها عبر خياله وكلماته، ويترك للمتلقي أن يجمع ملامح هذه الصورة، لكي يكون الناتج الأخير هو هذه الميزات والإنسانية، والصفات الكريمة التي يتمناها كل إنسان. أما الشاعر عماد غزالي فيقول: الإبداع بشكل عام هو معجزة الإنسان في كل العصور، هو علامته الباقية، وصرخته التي تتحدى العدم، وتقاوم محدوديته ككائن منفرد في الزمان والمكان. أما خطورة الشعر كشكل إبداعي، فتأتي من كونه يتشكل باللغة وفي داخل اللغة، لذا فإن التواصل الشعري بين البشر يكشف لمن يختبره عن اتساق البنية الثقافية والوجدانية بين الانماط المتعددة من البشر غلى الرغم من اختلاف مكوناتهم ومرجعياتهم الحضارية بشكل عام. يمكن إذن القول بأن الشعر واحد من المجالات التي توحد وتجمع وتهذب شتات النفوس، وتوجه الجموح الفردي الساعي إلى التمرد والتفرد، نحو إدراك المتشابه والمشتركبين تلك الذوات المتفردة، وتؤدي إلى كبح الغرور الذهني الذي يدفع الانماط الأكثر جهلا بالإبداع نحو تصرفات مضادة للحقائق الثقافية، وبالفعل فإن الإبداع هو نسج مستمر لا يتوقف لمساحات من الإلتقاء والتوحد بالجمال وبالقيم الجوهرية الراقية في أعماق الكيان الإنساني، إنتاجا واكتشافا. ويضيف الشاعر حسن شهاب الدين: "الشعر من أجل التعايش السلمي"..اقتراح بضرورة العودة بالقصيدة لاختصار المسافة بين الإنسان ووجوده الأنقى, والسير به فوق أرض رحبة من الجمال والسمو, فالشعر هو المختبر الذي تتوالد فيه الحياة بشكلها السهل البسيط, والقصيدة – لذلك – هي ميراث الإنسان الباقي تعبر به آفاق الزمان والمكان, ويتصالح فيها الإنسان مع نفسه ومع الآخر في آن..لذا فإنَّ مقولة " الشعر من أجل التعايش السلمي " هي التعبير المباشر والصحيح للتواصل بين البشر على ظهر هذه الأرض ومن خلال أكمل أشكال الإبداع وهو الشعر.. أما عن رأي النقاد فجاء رأي د.محمد حسن عبد الله حيث يقول: الكلام في المطلق صعب لا نستطيع أن نعالج دور الشعر دون تحديد لإطار مكاني وزماني يحدد الغايات التي يسعى إليها المجتمع، وتحرص عليها القيم الموروثة، حتى في العصر الجاهلي، وفي ظل التقسيم القبلي الحاد، وكان هناك شعراء حرب وشعراء سلام، وعلى رأس شعراء السلام زهير بن أبي سلمه، الذي وجه فنه الشعري لامتداح الزعماء الذين بذلوا من مالهم لدفع ديات القتلى بقصد إنهاء الحرب، وعلى رأسهم هرم بن سنان، وإذا كان الجهاد فريضةإسلامية فإنه ارتبط بإمانة الدولة الإسلامية، وتيس برغبة التوسع، وكان نشر العقيدة في حالة انفصال عن الحرب ف ي أحيان كثيرة، فكيف دخلت إندونيسيا والهند وجزر الملايا الإسلام، دون إراقة الدماء، بل بالقدوة الحسنة، مما يعني أن الدعوة إلى السلام دائما ليست بالضرورة دعوة إلى الضعف وليس الاستسلام، وأمامنا أمثلة عن حروب الفرنجة والغزو المغولي، أما في زمننا هذا فإن الدعوة إلى السلام تواجه مأزقا لا سبيل إلى تفاديه لأن لدينا شعب فلسطيني كحقيقة قائمة أجلي عن أرضه بقوة السلام، ولا نحسن النية في توجهات الدول الكبرى، لأن الشواهد تدل على أنها تضمر نية السلام معنا إلا أن يكون خضوعا وتسليما بمواردنا وصياغة المستقبل على النحو الذي يريدونه لنا، وليست الصورة التي يرتضيها شعبنا. إن مأزق السلام يغري بقصائد تؤسس للبناء الاجتماعي، فهو عنصر قوة لا تذكر في كلمة الحرب، ولكن هذا البناء الاجتماعي والتقدم الحضاري، من المؤكد أنه يؤدي إلى فرض السلام من خلال الندية والكفاءة. وفي النهاية يقول د.محمد عبد المطلب: لقد ارتبط الشعر بالسلام منذ بكورته, وهو ارتباط له مرجعيته القديمة التي صاحبت بداية الوجود البشري، إذ ارتبط هذا الوجود بالبيئة والصراع على الماء والطعام، أي أن البداية كانت مصاحبة للحرب، ومن ثم حاول الشعر أن يواجه الحرب والدمار بالسلام والأمن، ودعوة السلام كانت رسالة السماء إلى الأرض مع الأنبياء والمرسلين. وهذا الواقع البيئي تجسد في المجتمع الجاهلي، وخلال مسيرة الحرب التي دارت بين (عبس وذبيان) باسم (داحس والغبراء) وتدخل أهل السلام للإصلاح بين المتحاربين، تغنى الشاعر الجاهلي (زهير بن أبي سلمى) بالسلام في مقابل الدمار الحربي الذي صوره تصويرا بشعا، إذ صوره مرة بالرحى التي تطحن البشر،ومرة بالنار المحرقة، ومرة بالناقة الشؤم التي تنتج أبناء يزرعون الشؤم في كل مكان، يقول هرم: وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم * وما هو عنها بالحديث المرجم متى تبعثوها تبعثوها ذميمة * وتضرإذا ضريتموها فتضرم فتعرككم عرك الرحا بثفالها * وتلقح كشافا، ثم تنتج فتتئم ومع بدايات القرن العشرين، أخذت مفردة السلام تفرض حضورها الشعري، بحيث يمكن القول إنه لم تغب اللفظة عن الشعر العربي كله، وهنا نستدعي صوت الشعر اللبناني الذي استقر في مصر (خليل مطران): إذا أقبل السلام وذاك لفظ * له معناه وهو أجل شيء وتتابع شعراء العصر الحديث يربطون السلام بالحب والجمال، يقول أبو القاسم الشابي: إن للحب على الناس يدا تقصف الأعمارا وله فجر على طول المدى ساطع الأنوار ثورة الشر وأحلام السلام وجمال النور ويقول: كل البلاد جميعا * تغني ويحيى السلام ومن العراق يرتفع صوت بدر شاكر السياب في قصيدة (الأسلحة والأطفال) داعيا إلى أن يسود السلام في العالم: سلام على العالم الأرحب على الحقل والدار والمكتب على معمل للدمى والنسيج على العش والطائر الأزغب أما محمود درويش، فأحلامه أن يحل السلام بوطنه السليب: إنني أحلم بالزنابق البيضاء بشارع مغرد ومنزل مضاء أريد قلبا طيبا لا حشو بندقية أريد طفلا باسما يضحك للنهار وربما كان أهم تطور لاحق مفردة السلام، أن الشعر تنبه للفارق بين السلام والاستسلام، وربما كانت قصيدة عبد الرحمن الشرقاوي: (من أب مصري إلى الرئيس ترومان) في بداية خمسينيات القرن الماضي، بداية هذه الملاحقة، عندما قال: يا سيدي إليك السلام، وإن كنت تكره هذا السلام وتغري صنائعك المخلصين لكي يبطشوا بدعاة السلام ثم أخذ يذكر الرئيس الأميركي بجرائم وطنه ضد الإنسانية بالحرب والدمار، وهذا التحذير من الخلط بين السلام والاستسلام، هو ما قدمه أمل دنقل في قصيدته الشهيرة (لا تصالح): لا تصالح ولو قيل ما قيل من كلمات السلام كيف تستنشق الرئتان النسيم المدنس كيف تنظر في عيني امرأة أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها وهذا السلام المزيف هو الذي سخر منه سيد حجاب في قصيدته: (قبل الطوفان الجلي) في قوله: من غير تحية وسلام.. ما هو السلام لله.. ومش للطغاة. ولا للي عن حقه نام وده غير سلامكو بتاع أرامكو اللي ما حدش رآه سلام كلام.. ملغوم.. ومسموم.. وعار. و تتابع علي هذا السلام المزيف معظم شعراء الحداثة، في رصدهم لمأساة الشعب الفلسطيني، ومأساة العراق، وهو ما يحتاج إلى وقفة مستقلة لمتابعته تفصيلا.