أحمد زكي كان يعرف تماماً أنه إستثناء، وأنه يقع في منطقة من الموهبة تغيب عنها "أفعل" التفضيل: يعني ممكن أن تقول بأريحية أنه أفضل من كل الموجودين خارج هذه المنطقة، وفي نفس الوقت صعب أن تقول على أحد ممن يقعون فيها أنه أفضل من التاني.. منطقة ال 10/10 كما عرفها نور الشريف، العلامة الكاملة في التمثيل: منطقة ما بعد الكمال طبقاً للمعايير الفنية والنقدية؛ وما قبل الكمال الذي يصبو إليه هؤلاء الموهوبون بأفترى، والذي لا يصلون إليه أبداً.. ولأنه كان كده ونص؛ فقد كان ملياناً بالتشكك والهواجس وطبة القلب كأسانسير يسقط من الدور العاشر بسرعة قبل وأثناء وبعد عملية التشخيص، وبناءاً عليه فقد وضع لنفسه قواعد للسيطرة على المسائل وتقليل المعاناة والخسائر، ولنا في بطلة فيلم Black swan عبرة؛ فقد ماتت الست -في الفيلم طبعاً- لحظة وصولها لحالة من حالات الكمال في الأداء/ رقص البالية؛ لأنها لم تستطع السيطرة على هواجسها وعفاريتها أثناء رحلة التدريب على الأداء، والأداء نفسه.. قواعد زكي كانت تتلخص في هذه النُقط: 1- أول مرة First Take هي أفضل مرة، ولذلك رجاءاً من السادة المُشاركين في الفيلم عدم إرتكاب أخطاء؛ تضطر المخرج للإعادة، والكلام أيضاً موجه للمخرج على فكرة. 2- بروڤاتي الحقيقية مع نفسي؛ لأني ألبس الشخصية ولا تخلعني بسهولة حتى بعض ما أخلص؛ لقد عميت فعلاً لفترة بعد الإنتهاء من تشخيص شخصية طه حسين في فيلم الأيام. 3- عند لحظة معينة يجب أن ينصاع المخرج لرغباتي في إخراج المشهد؛ زي كده مشهد الخناقة في المطعم مع رغدة وبحضور محمود حميدة في فيلم الإمبراطور؛ فقد طلبت كادر ثابت مفتوح- مشهد One Shot؛ لأني بالتأكيد كنت سأفقد أعصابي وأطلع على الترابيزة؛ لأجيبها من شعرها. 4- لا تفرض علي كمخرج رؤيتك في كيفية تشخيص ورسم الملامح الرئيسية للشخصية؛ فسأعطيك ما تريد؛ إذا ما أعطيتني مساحة؛ ولذلك مثلاً مقدرتش على الشغل مع چو، ولا هو قدر!! كيف يتعامل مخرجون برؤية وإيجو Ego برضك مع مثل هذه الحالة المستعصية بقواعدها؟! لمحمد خان رأي مُختلف مثلاً؛ عبر عنه بقوله "أحمد زكي ممثل مجنون، وأنا مخرج مجنون، ولذلك صنعت أكثر من فيلم معه لأني أحببت شخصيته".. طبعاً في وصف الجنون تبسيط مُخل.. وصل حُب خان لشخصية زكي لدرجة قول زكي نفسه "علاقتي بخان علاقة أخوية.. يربطني به حبل سُري واحد"، طبعاً هذه العلاقة الأخوية لم تخلو من شوية خرابيش، مثل خربوش فيلم الحريف، حين أصر خان على أن شخصية فارس تكون بشعر طويل حبتين، بينما أصر زكي على مُفاجأة خان أول يوم تصوير بالحلاقة زلبطة؛ فطلب خان من زكي أن يتصل له بعادل إمام، وأسند له الدور أمامه، وراح زكي بعدها للحمام، وسب خان سباباً متواصلاً في مرأته، قبل ما يرضخ لأخوه، ويقول شعر أمينة چاهين في دخلة الفيلم بصوته.. فاجأ زكي خان مُفاجأة من النوع الحلو في فيلم طائر على الطريق، الذي كان سيستعين فيه بدوبلير لزكي في مشهد للعوم؛ أختفى خمسة عشر يوم عنه وعاد إليه وقال له "تحب أعدي المانش؟!"، وعزمه على عشاء بجوار بسين النادي الأهلى، الذي طش نفسه فيه، وعام أمامه؛ ليثنيه عن فكرة الدوبلير.. هذه الأخوة أجبرت خان على تحقيق حلم زكي في أداء دور السادات، الذي لا يستلطفه خان كثيراً، ورغم ذلك فقد كان هُناك خربوشاً أخوياً آخر عندما جرى زكي وراء خان في مكان التصوير بسكينة أمام الجميع؛ لأنه أبدى له بعض الملاحظات التي أحرجته، وهو السادات بقى ياسيدي، الذي لا يجب أن يحرجه أحد كده على المشاع، وقد كان ذلك آخر الشغل بينهما، وكانت آخر مرة رأى فيها خان زكي عند زيارته الوحيدة له في المستشفى، والتي لم يكررها؛ لأنه لا يقدر أن يشوفه على هذا الحال.. قرار قاس بإعتراف خان، لكن هذا ما حصل. مثلما كان زكي الإختيار الأول لخان؛ فإذا رفض أو رُفض من قبل المنتج أو كان مشغولاً أسند الدور لغيره؛ كان كذلك برضه بالنسبة لعاطف الطيب -ألف رحمة على الجميع- الذي كان رغم حزمه وشدته المعروفة عنه خصوصاً داخل اللوكيشن Location؛ يترك لزكي كثيراً مقبض المقص دار؛ كي يُفصل به معه التوب المُناسب للشخصية، وزادت هذه المساحة من الثقة خاصة بعد فيلم البرئ؛ عندما رأى الطيب بعيداً شخصاً يمشي كما يريد هو لسبع الليل أن يمشي؛ فطلب من المساعدين أن ينادوا على زكي ليرى المشية دي، سمع زكي النداء وهرول فكان هو الشخص نفسه الذي يريد الطيب أن يريه المشية، وأخبره أنه ذهب بعيداً ليعمل بروڤاته مع نفسه؛ علشان التركيز.. نظير ذلك كان زكي في لوكيشن الطيب مطيعاً أكثر من أي لوكيشن آخر، لدرجة أنه أدى مشهد المرافعة الأخيرة في فيلم ضد الحكومة ضد رغبته في التقطيع الكثير للمشهد؛ لأنه كان يريده مرة واحدة One Shot، هذا التقطيع كان مرهق جداً له ولطريقته في التشخيص.. نفس الإسلوب أتبعه داود عبد السيد مع زكي، الذي لم يكن يوجه له أي تعليمات تقريباً قبل أداء اللقطة أو المشهد، وكان تبرير داود "أنه يعطيني ما أريد وأكتر.. أنه الممثل الوحيد الذي كان يفاجئني وأنا وراء الكاميرا، رغم كوني المؤلف والمخرج معاً، وعارف أول وآخر الشخصية إيه".. لم يشتغل زكي مع داود غير في فيلم واحد من أفلام داود الثمانية وهو فيلم "أرض الخوف"، وتوفى زكي أثناء تحضير داود لفيلم رسائل البحر، الذي كان سيلعب فيه زكي دور يحيى أمام هيفاء وهبي!! لم تكن كل تلك القواعد -التي هي دفاعات نفسية بالأساس- والخرابيش والحكايات والروايات -التي كتبت منها أقل القليل- والشد والجذب والعصبية بين أحمد زكي والمخرجين الذين عمل معهم سببها فيض الموهبة وإبتغاء الكمال فقط، السبب المستخبي والأعمق كان أن هذا الرجل أبيض نقي وغير ملاوع أو كما عبر هو "العصبية دي رد فعل طبيعي أمام دهاء الناس وكذبهم، لازم أكون عصبي أمام التجاهل والغلاسة والرذالة واللف والدوران وإلا مبقاش إنسان، وأذكر قولاً للعم صلاح جاهين يقول فيه: علم اللوع أكبر كتاب في الأرض بس اللي يغلط فيه يجيبه الأرض".