وسط حالة من الصراع والتشابك بين السلطات الثلاث فى مصر «التنفيذية» و«التشريعية» و«القضائية». ومع دخول الدستور حيز التطبيق بعد الموافقة عليه فى الاستفتاء المزمع إجراؤه فى الخامس عشر من الشهر الجارى. شهدت الأوساط القضائية حالة من الغضب التى ظهرت جلية فى اعتراضهم على «الإعلان الدستورى» الذى أصدره الدكتور محمد مرسى رئيس الجمهورية، ليأتى مشروع الدستور ليكون بمثابة الضربة القاضية التى وجهتها الجمعية التأسيسية، بمباركة رئيس الجمهورية، للسلطة القضائية، وهو ما وصفه قضاة بأنه انتقاص من سلطات النيابة العامة فيما تجريه من تحقيقات ومنعها من إصدار أوامر القبض والضبط والإحضار، والتفتيش والحبس الاحتياطى، والمنع من التنقل بموجب المواد «32 و35 و36». من مشروع الدستور، متهمين المستشار حسام الغريانى، رئيس الجمعية التأسيسية بتنظيم مذبحة جديدة للقضاة، ما دفع قضاة للتهديد بعدم الإشراف على الاستفتاء على الدستور، وهو ما نفاه رئيس محكمة الاستئناف، مؤكدا أن المسودة لم تنتقص من سلطات القضاء ووضعت أعضاء النيابة فى مكانهم الطبيعى. وأعرب عدد من رجال القضاء والنيابة العامة عن غضبهم الشديد، وعدم رضاهم عن وضع النيابة العامة واختصاصها فى الدستور الجديد، بما تضمنته المسودة من إقصاء للنيابة العامة عن السلطة القضائية، ووضعها ضمن الجزء الخاص ب«الادعاء مع النيابة الإدارية والنيابة المدنية». أو ما يسمى «هيئة قضايا الدولة»، وقصر سلطة النيابة العامة على الادعاء العام «سلطة الاتهام» وسلبها أهم سلطاتها وهى سلطة التحقيق. مذبحة المحكمة الدستورية.. أكد المستشار عبدالغفار سليمان، نائب رئيس هيئة النيابة الإدارية، أن الدستور الجديد قلص سلطات واختصاصات المحكمة الدستورية العليا إلى أبعد حد ممكن واختزلها فى الرقابة على دستورية القوانين واللوائح فقط، وتجاهل واضعوه الاختصاصات المتعلقة بتفسير القوانين، والفصل فى تنازع الاختصاص بين المحاكم، فضلا عن منح رئيس الجمهورية الحق فى تعيين أعضاء المحكمة الدستورية، وتغاضى عن القيد الذى ينص عليه قانون المحكمة الحالى والذى يشترط «موافقة الجمعية العمومية للمحكمة على التعيين». وخفض الدستور عدد أعضاء المحكمة دون النظر إلى ما يمكن أن تواجهه المحكمة فى المستقبل من تزايد أعداد القضايا. وأضاف «إن الموقف السياسى لبعض أعضاء المحكمة انعكس على عمل الجمعية التأسيسية، عند وضع المواد الخاصة بالمحكمة، وتوسعت فى منح الاختصاصات لمجلس الدولة وهيئة قضايا الدولة، بتضمين النصوص الدستورية واختصاصات، كان من الواجب إدراجها فى نصوص القانون وليست بالوثيقة الدستورية». وأوضح أن «الدستور» فرّق لأول مرة فى التاريخ بين الهيئات القضائية فمنح لبعضها مسمى «الجهة»، والبعض الآخر مسمى «الهيئة» وتجاهل واضعو الدستور المدلول اللفظى لكل من الكلمتين، فلم يعد لفظ «الجهة» معبرًا عن طبيعة الهيئات والجهات القضائية، وكان من الأفضل أن تُبقى الجمعية التأسيسية على لفظ «الهيئة القضائية»، الذى ورد فى دستور «1971». واستقر عليه نظام القضاء المصرى، بالنسبة لجميع الهيئات القضائية، وهو ما نادت به المحكمة الدستورية العليا فى خطابها الموجه إلى التأسيسية، والذى ضربت به عرض الحائط. النائب العام.. قال المستشار الحسينى بدراوى، سكرتير عام مساعد نادى مجلس الدولة السابق، إن مشروع الدستور انتقص من منصب النائب العام الذى حددت مدته بأربع سنوات، وجعل سلطة تعيينه فى يد رئيس الجمهورية فضلا عن الانتقاص الواضح من صلاحيات المحكمة الدستورية العليا، عن دستور «1971». وأضاف: إن «مشروع الدستور» لم يضف جديدًا للقضاء العالى العادى والنيابة العامة، سوى مسألة عرض التشريعات على قسم التشريع بمجلس الدولة، إضافة إلى جعل مسألة العرض «جوازية» للسلطة التنفيذية بينما كانت إلزامية فى دستور «1971»، لافتا إلى منح هيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية وضعا أفضل من الوضع السابق فى دستور «71». وأكد أن المشكلة تكمن فى نوايا تطبيق مواد الدستور، وليس فى المواد ذاتها، خاصة فى ظل أزمة الثقة بين سلطات الدولة الثلاث «التشريعية» و«القضائية» و«التنفيذية». الأمر الذى يوحى بوجود مؤامرة على السلطة القضائية. وهاجم المستشار عبدالغفار سليمان، نائب رئيس هيئة النيابة الإدارية، المادتين «178» و«227»، الخاصتين بعمل النائب العام، مؤكدا أن اللجنة التأسيسية وضعت مادة فى الدستور تحدد مدة شغل النائب العام للمنصب بأربع سنوات، بهدف إقالة النائب العام السابق عبدالمجيد محمود، فور الموافقة على الدستور، باعتباره أمضى فترة أكثر من أربع سنوات فى العمل. دستور فى انتظار القانون.. قال المستشار ياسر عكاشة المتناوى، الرئيس بنيابة النقض الجنائى: «نصوص الدستور الجديد، وضعت مجتمعة فى حزمة واحدة للموافقة عليها كلها أو رفضها كلها دون تجزئة للمختلف فيه، وإن كان يصعب إبداء الرأى فىما يتعلق ببعض المواد، كما أن الباب الثالث والمتعلق بالسلطة القضائية وتحديدا فيما يخص الفرع الأول والثانى أدرج به بعض مواد معظمها يحيل إلى قوانين، ومنها المادة رقم «168»، والمادة «169». والتى تنتهى بعبارة «وفقًا لما ينظمه القانون». بما يعنى أن هذه المواد تتطلب إصدار قوانين ولوائح لاحقة على الدستور، الأمر الذى يجب أن يتم بتجرد وحيادية موضوعية، بما يتفق مع أحكام الدستور دون التفاف أو التواء». ورفض «المتناوى» تقليص سلطات واختصاصات وعدد أعضاء المحكمة الدستورية العليا، معتبرا أنها من أبرز «خطايا» مشروع الدستور. وأضاف: «القانون هو انعكاس للأوضاع السائدة فى المجتمع، فإذا كانت الكلمة هى المقدمة الأولى للديمقراطية، فإن سيادة القانون هى الضمانة الأخيرة له، الأمر الذى يعنى أن الدستور يجب أن يكون وثيقة تحدد علاقة الحاكم بالمحكومين، وجاءت ثورة يناير لتعلى من شأن الدستور الذى يعتبر القانون الأسمى، وصاحب الصدارة، الذى يجب النزول على أحكامه، فإذا ما تعارضت أحكامه مع القوانين وجب التزام أحكام الدستور وإهدار ما سواها، وإذا ما أورد الدستور نصا صالحا بذاته للإعمال بغير حاجة لسن تشريع أدنى، لزم إعمال هذا النص من يوم العمل به، طبقا لما قضت به محكمة النقض». وأكد أن القضاء هو الحارس لمبادئ الدستور فى مواجهة كل سلطات الدولة بما فى ذلك السلطة التشريعية ذاتها من خلال مبدأ الرقابة الإدارية القضائية على دستورية القوانين، طبقا لما أقره المستشار عادل يونس، قاضى قضاة مصر، رئيس محكمة النقض الأسبق، الذى أكد أن «الرقابة على دستورية القوانين هى دائما أبرز الحلول الجدية لضمان سيادة الدستور فى البلاد التى تبحث عن الوسائل القانونية الكفيلة لضمان خضوع سلطات الدولة والهيئة التشريعية لقواعد الدستور». كان المجلس الأعلى للقضاء برئاسة المستشار محمد ممتاز متولى قد أجرى اتصالات مكثفة مع رئيس الجمعية التأسيسية المستشار حسام الغريانى من أجل تغيير وضع القضاة فى الدستور الجديد، للأخذ بالمطالب التى قدمها مجلس القضاء الأعلى للجمعية التأسيسية، قبل خروج المسودة بالشكل النهائى، غير أن قضاة اتهموا اللجنة بعدم النظر لمطالب القضاة فى الدستور الجديد ما جعلها مرفوضة من قبل كل الجهات القضائية، وقضاتها، بداية من قضاة المحكمة الدستورية العليا، وقضاة مجلس الدولة، وهيئة قضايا الدولة، وأعضاء النيابة الإدارية نهاية بأعضاء النيابة العامة، وهو ما ظهر جليا بعد تلويحهم بالامتناع عن الإشراف على الاستفتاء على الدستور.
لم تنتقص من سلطات القضاء.. أكد المستشار أيمن الوردانى، رئيس محكمة الاستئناف أن الدستور لم ينتقص من سلطات القضاء، لكنه وضع مستشارى التحقيق بالنيابة العامة فى مكانهم الطبيعى وأعادهم لدورهم الحقيقى، محافظا على الضمانات اللازمة لقيام القضاء بواجبه ودوره فى المجتمع، نافيا أن يكون مشروع الدستور انتقص من سلطات القضاء بأى شكل من الأشكال، مشيرا إلى أن ما تم سلبه من اختصاصات من أعضاء النيابة العامة كان فى مقابله إسناد تلك المهام إلى هيئة قضائية مثلها، ووضع نصوص تنظيمية لعمل النيابة العامة والقضاء تحديدا بقانون السلطة القضائية الذى سيصدره البرلمان، مشددا على عدم مساس مشروع الدستور بسلطات أى من أفرع السلطة القضائية. وأضاف: إن تحديد مدة ولاية النائب العام بأربع سنوات يهدف إلى إعمال مبدأ تداول السلطة فى كل مؤسسات الدولة، وليس فقط داخل الحقل القضائى، مشيرا إلى أن حالة الجدل وأزمة النائب العام السابق المستشار عبدالمجيد محمود كانت بسبب بقائه فى منصبه لمدة غير محددة. وأوضح «الوردانى» أن الانتقاص من صلاحيات المحكمة الدستورية العليا لم يكن الهدف منه تقليص صلاحياتها أو تحديد سلطاتها والتقليل من شأنها عما كانت عليه فى دستور «1971». مضيفا: إن تقليص عدد أعضائها لن يمثل عبئا على الأعضاء الباقين باعتبارها محكمة تختلف عن باقى محاكم مصر، حيث إنها لا تتبعها دوائر ولها مكان ومقر واحد.
هيئات قضائية بدون حصانة شدد المستشار حسام هشام صادق، نائب رئيس محكمة النقض، على ضرورة الفصل بين السلطات والهيئات القضائية، موضحا أن بعض الهيئات القضائية مثل هيئة قضايا الدولة وهيئة النيابة الإدارية، تعتبر هيئات قضائية، لكنها لا تحسب على القضاء الجالس باعتبار أن القضاء المعنى بالحصانة هو القضاء العالى العادى، وقضاة مجلس الدولة وأيضا القضاء الدستورى باعتباره هو الحَكم النهائى فى المنازعات بين الأفراد ومؤسسات الدولة أو بين مؤسسات الدولة وبعضها. وقال: إن النيابة العامة هى شعبة أصيلة فى السلطة القضائية، ولها الحق فى التحقيق وتوجيه الاتهام على خلاف بعض الدول الأخرى التى تكون فيها النيابة تابعة للسلطة التنفيذية، أما النيابة العامة فى مصر تتبع السلطة القضائية فلها الحصانة الكافية لضمان عدالتها وحياديتها، وبالتالى تم الإبقاء على وضعها السابق فى الدستور، مؤكداً على ضرورة تعيين النائب العام بقرار جمهورى من رئيس الجمهورية بشرط أن يقتصر اختيار شخص النائب العام على المجلس الأعلى للقضاء، مهما اختلفت مدة بقائه فى منصبه، وكذا عدم قابليته للعزل تدعيما لمبدأ الفصل بين السلطات، وتحديدا السلطة القضائية والتنفيذية، إلى جانب فصل إدارات المحاكم والتفتيش على القضاة بحيث يتبع المجلس الأعلى للقضاء.