من منا لم يعان - ولو أحيانا - من الصداع وألم الرأس الذى كدر عليه وقته، ومنعه من تأدية عمله، أو الاستمتاع بحياته؟.. لا بد أن هذه التجربة لدى كل منا قد تركت بداخله عدة تساؤلات نحاول الإجابة عنها، فالإحساس بألم الصداع يختلف مكانه من إنسان لآخر، فقد يأتى فى مقدمة الرأس فى الجبهة، أو على أحد جانبى الرأس أو كليهما، وقد يصيب مؤخرة الرأس وأعلى القفا، أو تمتد آلامه إلى العين أو الفك أو الأذن، وقد تصاحبه أعراض أخرى غريبة مثل انكسار فى جفن العين، أو انسكاب الدموع، أو حساسية ونفور من الضوء، ورغبة شديدة فى عدم سماع أى ضوضاء، وأحياناً يصاحب هذا الصداع انهمار للمخاط من الأنف، أو غثيان ورغبة شديدة مزعجة فى القىء، أو إحساس بدوار وعدم اتزان. وتختلف شدة الصداع من الألم المحتمل الذى لا يعوق الإنسان عن القيام بما يقوم به إلى آلام حادة تدفع بصاحبها إلى طرق رأسه فى المنضدة أو الحائط من شدة الألم، مما يصيبه بالاكتئاب لو استمرت هذه الآلام لمدة طويلة دون علاج.
ورغم تصور الكثيرين ممن يعانون من الصداع أن مصدره من المخ، فإن المفاجأة أن أنسجة المخ نفسها فاقدة القدرة على الإحساس بالألم أو خلافه، ويعلم جراحو المخ أنهم يمكنهم إجراء جراحات فى المخ بعد تخدير فروة الرأس والأغشية المبطنة لعظام الجمجمة تخديراً موضعياً دون اللجوء إلى تنويم المريض بمخدر عام فى بعض الحالات، إلا أن الذى يعطى الإنسان الإحساس بالألم هو مراكز الإحساس بالألم الموجودة فى القشرة المخية ونواة المهاد أو السرير المخى فى مركز المخ، فالإشارات المؤلمة تسير بحسب مكانها فى طريق ومسار محدد، فالألم القادم من النصف الأمامى للرأس والوجه يسير عبر العصب الخامس، أما النصف الخلفى من الرأس والقفا فتأتى إشارات الألم من خلال عصبى النخاع الشوكى العنقى إلخ.. وهذا يفسر لنا كيفية اختلاف مصادر الصداع ومكانه، فأمراض العيون مثلاً كالأستيجماتيزم أو ارتفاع ضغط العين تسبب صداعا عند القراءة، وربما يبقى لفترة بعد ذلك، أما الالتهاب العظمى الغضروفى لفقرات العنق فيسبب صداعاً فى مؤخرة الرأس، ويسبب التهاب الجيوب الأنفية وآلام الضروس فى الفكين وألم مفصل الفك، وفى حالة التهاب الأذن صداعاً على أحد أجناب الرأس، وفى بعض الحالات قد يكون الصداع نذيراً بحدوث مضاعفات داخل الرأس. أما الصداع النصفى المعروف فيكون مصدره اتساع ونبضات الأوعية الدموية سواء كانت داخل أو خارج الجمجمة، وعلى حسب صوره المختلفة تختلف مسمياته مثل الصداع الشقى، أو الصداع العنقودى الذى يأتى على شكل موجات متتالية، وهناك فى بعض الأحيان الصداع الذى تسببه آلام العصب الخامس، حينما يتأذى من تلامسه لإحدى الشعيرات الدموية داخل المخ، ويشعر بها المريض على شكل إحساس بومضات كهربائية أو أسياخ من النار، وهنا يتركز الألم فى المجال المحدد الذى يغذيه أحد فروع هذا العصب، ولمس أى نقطة فى هذا المجال يسبب عودة هذه الآلام المروعة لدرجة أن المريض يتخلى عن غسيل أسنانه، أو حلاقة ذقنه على هذا الجانب من الوجه. والحقيقة أن أكثر ما يقلق مريض الصداع ويشغل باله هو أن تكون هذه الآلام والأعراض مقدمة لوجود أورام بالمخ نفسه، وفى أغلب الحالات يكون هذا الاعتقاد خاطئا، فالأورام تمثل نسبة قليلة جداً من أسباب الصداع، والصداع الناتج عن ورم تصاحبه أعراض أخرى مثل : ميل للقىء - زغللة فى الإبصار –نوبات تشنجات أحياناً – خدل أو ضعف بأحد الأطراف، وعندها يجب الإسراع باستشارة الطبيب المختص مباشرة، أما نوبات الصداع الناشئ عن ارتفاع ضغط الدم، أو تصلب الشرايين فى المخ، فإنها تتسلل تدريجياً دون أن تصاحبها أعراض أخرى منذرة حتى يكتشفها الطبيب مع الكشف العام. ورغم ما ذكرناه من أسباب عديدة للصداع، فإن كل هذه الأسباب لا تمثل سوى نصف نسبة الحالات، أما النصف الآخر فيسببه الصداع النفسى، والذى يشكل القلق والاكتئاب والتوتر العصبى المزمن النسبة الأكبر من أسباب حدوثه، ولكن من المهم أولاً استبعاد الجانب العضوى من أسباب الصداع قبل أن نركن إلى معالجة الصداع على أساس أنه نفسى، ولعل هذه الكلمات تكون مقدمة وجيزة للحديث عن بعض مسببات الصداع تفصيليا فيما بعد..عافانا الله منها جميعاً.