فى الغرب يحولون بيوت المشاهير إلى متاحف تُخلد ذكراهم للأبد، فمنزل فولتير في فرنسا تحت إشراف وزارة الثقافة، والبيوت التي ولد فيها سلفادور دالي وبلزاك وديكينز وجوته وشيكسبير وطاغور واينشتين وغيرهم تحولت لمزارات خاصة تكريما لهؤلاء العظماء .. حتى شرلوك هولمز الشخصية الخيالية جعلوا له متحفا خاصا فى 221 شارع بيكر بلندن، حيث يعيش فى الروايات. أما في مصر فالأمر عشوائي .. فمنازل طه حسين «رامتان» وأحمد شوقي «كرمة بن هانئ» وحتى الشاعر السكندري الكبير قسطنطين كفافيس أصبحت متاحف جميلة، لكن الكثير من مبدعينا ومفكرينا يحتاجون منا أن نرد لهم الإحسان بالإحسان .. وأول هؤلاء هو «ألفة» الغناء المصري العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ.. وكأن العذاب لا يريد أن يفارق عبدالحليم حتى وهو ميت، فبعد آلام المرض التى أجهضت عليه، تكاد ذكراه تزول من مسقط رأسه. فى محافظة الشرقية، مركز الإبراهيمية، قرية الحلوات زرنا آخر بقايا عبدالحليم، البيت الريفى الذى ولد به، والذى فوجئنا بأنه تحول إلى فرن عيش. البيت أشبه بالفيلا، وأصبح يتم فيه تخزين أجولة الدقيق بدلا من أسطوانات الموسيقى، وعندما حاولنا البحث عن بقايا عائلة عبدالحليم فى القرية دلنا الأهالى على ابن خالته الحاج شكرى داود. الحاج شكرى شيخ سبعينى، ملامحه تشبه العندليب الراحل، فلو مد الله فى عمر عبدالحليم لكان هذا وجهه، قال لنا: إن الفيلا رغم تحولها لفرن لكنها مازالت تسمى فيلا عبدالحليم حافظ، وملحق بها مسرح عبدالحليم حافظ الذى كان الهدف منه تقديم عروض فنية لأهل القرية والاحتفال بمهرجان سنوى له، لكنه الآن أصبح مكانا لتجميع الزبالة، فلا توجد أى ملامح تعبر عن الكيان الفنى الجميل لعبدالحليم ولا ترتقى بذوق أهل القرية. الفيلا كما يقول ابن خالة العندليب عمرها سبعون عاما، وكانت عبارة عن 6غرف بجناح صيفى وجناح شتوى، ورثها عبدالحليم حافظ من خالة الحاج متولى عماشة، وبعد موت عبدالحليم آلت إلى أخوته، ومنذ عشر سنوات تقريبا قام أهله ببيعها ب60 ألف جنيه لأحد أبناء القرية يدعى محمود شندى، الذى يمتلك عدة أفران للعيش بالمحافظة فقرر ضم فيلا عبدالحليم إلى سلسلة الأفران. أكثر ما يتخوف منه الحاج شكرى هو أن تختفى ذكرى عبدالحليم من القرية، ويقول: «من يأتى القرية حاليا لا يجد أحدا يصل منه لمعلومات إلا أنا، ومن بعدى سوف تنقرض أخبار عبدالحليم وملامحه من قرية الحلوات». بعد وفاة العندليب كان بعض الإعلاميين يحضرون للتصوير بالفيلا مثل سامية الإتربى وسمير صبرى، لكن بعد بيعها وتحويلها إلى فرن اختفى ذلك، ويرى الحاج شكرى أن الفيلا كان لا بد أن تتحول إلى متحف ويحتفظ بكل ما يخص عبدالحليم حتى ولو قميص أو دبوس بدلة أو تتحول لقصر ثقافى يحتفظ بذكريات عبدالحليم مع أصدقائه الفنانين فيها. حاولنا التصوير داخل «الفيلا/الفرن».. لكن أصحابها رفضوا، فزرنا النادى الذى تصفه لافتة كبيرة بأنه «مسرح عبدالحليم حافظ» وكانت الصدمة أن المسرح ليس به أى اهتمام ولا يعبر عن عبدالحليم الفنان العظيم ولا حتى عبدالحليم المريض. وعندما استفسرنا من إحدى المسئولات عن النادى، شيماء السيد عبدالرحمن، قالت إن المسرح لم يقم أى احتفال بذكرى عبدالحليم حافظ منذ عام 2000، ورغم أن المسئولين يزورون المكان ويعلمون بالإهمال، لكنهم لا يعيرونه أى اهتمام، وحاليا يستخدم لإقامة بعض الأفراح القليلة لأنه غير مجهز، فيفضل الأهالى الذهاب إلى قاعات خارج القرية. ثم اختتمت بنبرة حزينة «لا يوجد سوى كتاب واحد فقط فى المكتبة الخاصة بالنادى عن حياة عبدالحليم». هذا ما تبقى لعبدالحليم حافظ داخل قريته «الحلوات».. ذكريات اختفت معالمها ومسرح تملأه المخلفات وفيلا تقدم غذاء البطون وتتجاهل غذاء الروح.