كنت في السابعة عشر من عمري عندما قال لي أبي أنه لا يأس من العدالة في بلادنا، وأخبرني أن فقدان الأمل ما هو إلا حيلة الجبناء، ونحن لسنا جبناء، فأخذني من يدي وذهب بي لتقديم تظلم في مادة الجغرافيا، لم أكن سوى طالبة لا حيلة لها، لكني كنت على يقين بأني أستحق أكثر مما حصلت عليه من درجات في امتحان الثانوية العامة، بكيت بشدة على مجهودي، فتألم أبي لتألمي، وقال لي أنه لا سبيل غير "المعافرة". قدمنا التظلم بالفعل، وكلفته في ذلك اليوم مائة جنيه ثمنًا للإجراءات الإدارية. وبعد بضعة أشهر، ظهرت نتيجة التظلم وعُدِلَتْ درجتي بالفعل لأحصل على ثلاث درجات إضافية ووفقا لذلك عُدل مجموعي، ولكن كل هذا لا يُهِم، لم أكن بحاجة لتلك الدرجات، فقد علمت أي كلية سأدخل، وأي مستقبل سأسلك.. فقط كنت في أمس الحاجة إلى يقين أبي بالعدالة، عدالة الدولة بشكل خاص وعدالة السماء بشكل عام. مرت السنوات، وأبي الذي يلتصق بالحائط ولا يكتفي بالسير بجانبه فقط، أبي المُسالم، الهادئ الخَيّر الحكيم، رجل المُثل العليا والمبادئ التي لا تتغير وإن قامت القيامة، إذ به يُفاجئ باقتحامِ منزلنا وسرقةِ أموال ليست ملكه في المقام الأول، أموال وُضعت أمانة عنده، سرقت ونحن نيام. يهتز منزلنا ويُقلب رأسًا على عقب وأبي صامد صمود الجبال، نلعن أنا وأمي وأخواتي ذلك السارق المجهول، ندعو عليه ليلَ نهارَ بألا ينعم بكل جنيه حصل عليه دون وجه حق، وأبي يجلس وحده داعيًا الله أن يغفر لذلك السارق، الذي باعَ آخرته بدنياه، يصبر أبي كعادته، ينام ولا يؤرقه شيءٌ، قلبه مطمئن لرحمة ربه وعوضه، يرتاح هو ونتوجع نحن له، ولكننا اندهشنا من ثباته في جميع الأزمات، ونتمنى نحن بناته لو ورثنا عنه ذلك.
تدور الأيام والظروف وتصبح أصعب يومًا بعد يوم وينصحه المخلصون من حوله أن يغادر البلاد إلى أوروبا حيث في استطاعة ذلك، ولكنه في كل مرة يسافر ثم يعود مجددًا، مؤمنًا بدوره في هذا البلد وأن التقدم والعدالة الاجتماعية قادمان لا محالة.
ولكنني يا دولتي العزيزة، أخشى أن تكوني بعد كل هذه السنوات كسرتِ أبي الذي تقويت بقوته، أخشى أن تكوني قد كسرتِ ظهري وسندي بالحياة، نظرتُ لأبي اليوم ولأول مرة، ذلك الرجل الذي قارب السبعين عامًا يبدو لي وكأن يقينه قد اهتز في عدالة الأرض. الرجل الذي كان دائم التوكل، دائم الإيمان، والذي مازال مؤمنًا إلى الآن، لم يعد أبي المحارب، أبي "المعافر"، الذي أخذني من يدي يوماً لنحصلَ على درجاتٍ لم أكن بحاجةٍ إليها لأدخلَ الجامعة التي أحلم بها. بعد أن دار أبي في محاكمك، والتمس عدالتك، وبُحَّ صوته على أرضك وانحنى ظهره بظلمك.
لما يزيد عن أربع سنوات عشنا كأسرة تحت تهديد وتوتر مستمر، غُرم أبي آلاف الجنيهات بسبب شكوى ظالمة وجدت طريقها الى أحد موظفي الدولة العميقة وترتب عليها الكثير من التداعيات. حاول أبي بكل ما به من قوة وإيمان وبثقة كبيرة في الحق أن يدفع هذا الظلم عن نفسه.. أبي "الرجل الحقاني" الذي حكيت عنه، مطلوب لدفع غرامة قدرها يزيد عن ثلاثة ملايين ونصف مليون جنيه ظلماً.
القصة أنه أقام "تنده من الصاج" على السطح الخاص بنا ليحمينا من قفز عمال الصيانة إلى "تراس شقتنا"!
ففي عام 1992 اشترى والدي شقتين في الدور الأخير في أحد العمارات ولهما تراسين مكشوفين وحق انتفاع بجزء من السطح والجزء الآخر منفصل لخدمات السكان وله باب منفصل و سُجِّلَتا على هذا الوضع في عام 2000، خلال هذه الفترة حدث أن قفز أحد عمال الصيانة على الجزء الخاص بنا بكل سهولة متحججاً بوقوع "عدة" منه في تراس شقتنا، تخوف أبي من تكرار مثل هذا الحادث في المستقبل، واتخذ اجراءً احترازيًا بوضع تنده صاج لتغطية جزء السطح الخاص بنا حرصا على أمننا، وخصوصًا أن حارس العمارة عادة ما يترك باب السطح مفتوحا لكل من يريد الصعود من عمال الصيانة في الجزء الخاص بالسكان. عندما شرع أبي في إقامة هذه التنده على الجزء الخاص بنا من السطح، سأل صديق له مستشاراً في مجلس الدولة فقال له أنه هذه التنده الخفيفة لا تحتاج الى ترخيص لأنها ليست من أعمال البناء.
مرت السنوات وانتقلنا فيما بعد للعيش خارج القاهرة لظروف عائلية طرأت، لم يكن هناك أيّ مشاكل وتُرِكَت الشقتين مغلقتين حتى فكر والدي في عام 2014 أن يقوم ببعض التجديدات في الشقتين والتنده مما أزعج جارتنا في الدور التاسع فشكتنا لدى الحي الذي قام بتحرير عدة محاضر ضد والدي تتهمه فيها بأنه بنى شقتين مخالفتين في الدور العاشر وقام بعمل تنده لتغطية التراسات، ثم أصدر الحي قرار إزالة للشقتين والتنده المزعومة، وهي تهم باطلة، فهو لم يبنِ بل اشترى الشقتين بعد أن تصالح عليهما المالك المخالف، أما التنده الوحيدة التي أقامها فهي التي على جزء من سطح العمارة ومساحتها لا تتعدى ال 150 م2!!
لم يفهم والدي في بادئ الأمر عِظَمَ الحدث واعتبر أنه خطأ بالتأكيد وخاصةً أنه لم يعلم بهذه المحاضر إلا بعد صدور قرار الإزالة ولم يقم الحي بأيّ معاينة للواقع أو التأكد من وجود أي مستندات لدينا والتي توضح بأنه كان هناك مخالفة في عام 1991 وتم التصالح عليها من قبل المالك مع شركة "مصر الجديدة" المانحة للتراخيص في ذلك الوقت والتي انتقلت بعد ذلك إلى الحي في عام 1993.
عندما شعر أبي بالخطر وَكَّلَ محاميًا أكد له افتراء هذه التهم وأن مجلس الدولة سيصحح هذا الوضع بعد رفع قضية أمامه وهذا ما حدث بالفعل رفع القضية التي انتُدِب فيها خبير لم يأت حتى اليوم (أربع سنوات!!) لكن المخالفات أخذت طريقها "الجنائي" فحُكِم على أبي بسنة سجن مع الشغل غيابياً بسبب محضر ملفق لاستئناف الأعمال وهي تهمة ملفقة فلم يكن هناك استئناف لأي أعمال وتم إعفاءه من الحكم لعدم إعلان الحي له!
استمرت القضايا الملفقة حتى حكم على أبي بسنتين سجن مع الشغل وكفالة 20 ألف جنيه ليقوم باستئناف الحكم .. الاستئناف عفى أبي من السجن ولكن حكم عليه بغرامة 90 ألف جنيه بسبب "تنده التراس المزعومة"!! وبالرغم من أن هذه الغرامة خطأ لأنها على تنده غير موجودة أصلًا .. امتثل أبي لحكم المحكمة ودفع الغرامة صاغراً .. وعندما هم بالانصراف من المحكمة منعوه بدعوى أن هناك قضية أخرى في حقه صدر فيها حكم غيابي آخر بالغرامة ويجب أن يتم استئنافه ليتمكن من الانصراف .. أسرع المحامي بعمل ذلك حتى لا يبيت أبي في الحجز وكانت المفاجأة أن القضية الجديدة هي قرار إزالة آخر بتندتين صدر بعد القرار الأول بعدة شهور .. التنده الأولى هي الوهمية التي غرم عليها وهي غير موجوده أصلًا بدعوى أنه أغلقها وضمها لمساحة الشقتين والأخرى تنده فوق سطح الشقتين وبمساحة قدروها ب 450 م2 وهي ثلاثة أضعاف المساحة الحقيقية للتنده الوحيدة التي أقامها أبي!!!
دفع المحامي ببطلان هذه القضية لعدم علم أبي بها وعدم تسلمه أي اخطار عنها ولم يثبت الحي غير ذلك إلا أن قسم الشرطة أفاد بلصق القرار على باب الشقة وهو ما لم يحدث ولم يره أبي لعدم إقامتنا في الشقة ولم يره العامل الذي يذهب أحيانا للاطمئنان عليها .. أخذ القاضي باللصق بالرغم أن ذلك يخالف صريح القانون من (المادة 61 من القانون 119 لسنة 2008)، والتي تقتضي ضرورة إعلان المُخالِف بالبريد المسجل بعلم الوصول.
أقر القاضي الغرامة، وهي في هذه الحالة 1% من قيمة الأعمال المخالفة والتي قُدرت ب 3150 جنيه يوميًا لمدة تزيد عن 3 سنوات ومازالت مستمرة حتى الآن برغم الإزالة، أي ما يزيد عن ثلاثة ملايين جنيه بالإضافة اليومية التي تزيد كل صباح بنفس المبلغ!
قبل المحاكمة الأولى مباشرة وأثناء سفر أبي قامت قوة من الشرطة والحي بالذهاب إلى العمارة لتنفيذ قرار الإزالة الخاص بالشقتين وتنده التراسات المزعومة ولأن الشقتين مغلقتين تركوا إنذارا لإقتحام الشقة وعلم أبي بذلك فأرسل العامل الذي يعمل معه والمحامي ليفتحا لهما الشقتين ولأنه لا توجد تنده بالتراسات أصلًا قاموا بإزالة تندة السطوح فقط ولكن حرروا بالأوراق أنهم أزالوا التنده الوهمية!!
بعد عدة محاولات وفي كل الجهات، قامت جهة رقابية على الحي بعمل معاينة ومعهم المهندسة محررة المحاضر المزورة بعد تقدم أبي بشكوى لهم.. اعترفت المهندسة بالخطأ واعتذرت لأبي عما بدر منها أمام مفتشي الجهة الرقابية مبررة خطأها بأنها ضُغِطَ عليها من عدة جهات لتفعل ذلك ولم تحدد أي جهات! وعندما سألها أبي كيف تكتب المخالفات والمساحات دون أي معاينة، قالت مبرئة نفسها من تهمة التزوير: "ما أنا لما أحط مساحة كبيرة، أنا مابخدش الفلوس في جيبي، دي بتروح للدولة". وكأن هذا ينفي عنها الفساد، وكأن كل ما يمتلكه أبي من أموال جمعها من عرق جبينه هي "حلال على الدولة" .. إلا أن التقرير الصادر عن الجهة الرقابية أثبت أن المخالفات قد أزيلت ولم تزد عن ذلك لعدم توريط المهندسة .. وهذا معناه أن المخالفات كانت موجودة وتم إزالتها فتبقى الغرامة المليونية كما هي وتنجو المهندسة من العقاب!!
المشكلة الحقيقة تكمن في أن الأحياء تعطي المخالفات دون أي معاينة، يكتبون التقارير والمحاضر على مكاتبهم الحكومية ولا يشكك أحد فيما يكتبون بل وتصدر قرارات إزالة ويوقع عليها المحافظ ويصبح القرار الصادر نافذًا. وإن كنت مظلومًا، فعليك أن تسرع إلى مجلس الدولة للطعن في القرار الصادر، ثم تنتظر خمس سنوات وهو المتوسط الذي تستغرقه الدعوى للفصل فيها.
خلال هذه الرحلة المرهقة، قابل أبي العديد من الأفراد الذين عرضوا عليه إنهاء هذه المهزلة في مقابل حصولهم على رشوة، وفي كل مرة كان أبي يرفض رفضًا قاطعًا، ولكن هذا لا ينفي أننا نعيش في بلد لا تترك للبرئ خيارا سوى الإجرام لإثبات براءته، أو الهلاك بمبادئه.
أكتب لك اليوم يا دولة لأسألك، كيف يسلم المواطن من شَرِّك؟ كيف نحيا بدون أن نُدهس بثغرات قانونك؟ كيف غيرتِ رجلًا ترعرع وشاب على الإيمان بكِ؟ يقولون أن البشر نادرًا ما يتغيرون في مثل هذا العمر، فكم لك من "جبروت" يا دولة؟ حتى تُريِنا ما لم نره من قبل، فنخسر ما ظنناه دائم لنتعرف على أنفسنا من جديد. أسألك اليوم وأرجو أن تجيبيني إن استطعت، يا دولة، ماذا فعلت بأبي؟
لم يستمع أحد لصوت أبي لأنه ليس VIP ولكنني سأقف على أبوابك، سأقف أمام دار قضائكِ العالي ووزارة عدلِك ومدينة إنتاجك الإعلامي، سأقف وإن استغرق الأمر عمرًا كاملًا، لن أجلس في بيتنا لأبكي على ما فعله فينا الزمان والنساء اللاتي ينشغلن عن أداء أعمالهن بتقوير المحشي. سأقف لأسألك نفس السؤال مرارًا وتكرارًا، ماذا فعلت بأبي؟ وأجيبي إن استطعتِ!