احترام القوانين والاستثمار فى العقول جعل النمسا تصنف من أكثر دول العالم فى جودة المعيشة والحريات عندما كنا صغارًا، لم نكن نعرف أننا فى عالم مترامى الأطراف، نتجمع سويًا أمام التلفاز حيث الأغانى والفن الجميل، وكنت عندما أسمع أغنية الفنانة الرائعة أسمهان مع والدى، وهى تدندن بكل رقة وصوت عذب «ليالى الأنس فى فيينا»، تساءلت كثيرًا أين فيينا؟ ولماذا شبهتها أسمهان كونها صورة من الجنة، وجال فى خاطرى عدد لا حصر له من الأحلام والتساؤلات حول فيينا، وتمنيت زيارتها بكل شغف، وبعد أكثر من عشرين عامًا كان القدر يرتب لى زيارة خاصة لمرافقة السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى، كوفد إعلامى لتغطية زيارته الرسمية إلى هناك. ومن أول وهلة، يستطيع أن يخطفك هذا البلد الصغير بجماله الخلاب وطبيعته الساحرة، تكاد تشم رائحة التاريخ والحضارة والفن الراقى فى كل طرقاته، فرغم برودة جوها فى الشتاء ليصل إلى 10 درجات تحت الصفر أحيانًا، فإنها استطاعت العام الماضى أن تحقق طفرة فى الجذب السياحى بعدد 33 إلى 35 مليون سائح سنويًا. تجولت فى عاصمة الموسيقى العالمية، حيث أشهر مبانى الأوبرا النمساوية، والفنانين العباقرة، أمثال «موتزارت» الذى عاش أغلب حياته فى عاصمة الجمال، حيث تقدم الأوبرا العريقة هناك حوالى 50 عرضًا أوبراليًا و25 عرضًا للبالية على مدار 300 يوم فى العام، وعندما أخذتنى قدماى لأجمل ما رأت عينى، وهى حديقة «اشتاك بارك» بالحى الثالث فى فيينا، حيث البحيرات والبط النمساوى والحدائق الخضراء تزينها الثلوج البيضاء، علمت بالصدفة أن هذا المكان هو من تغنت به الرائعة أسمهان عن ليالى الأنس فى فيينا، وأخيرًا أدركت أنها كانت توصف الجنة كما رأيتها الآن، فهناك تماثيل مطلية بالذهب وبهجة فى كل مكان. كل ذلك جعلنى أتساءل عن سر نجاح هذا البلد الذى يصل عدد سكانه إلى 8 ملايين و700 ألف نسمة ولا تتعدى مساحته 87 ألف كيلو مترًا، وكيف استطاع أن يكون قبلة السياحة فى أوروبا بأرقام هائلة، وكيف نجح فى أن يسجل طفرة فى مؤشراته الاقتصادية العام الماضى بناتج محلى إجمالى 368 مليار دولار، ونسبة نمو اقتصادى تصل إلى 2.1فى المائة، ونسبة بطالة أقل من 5.5 فى المائة، وكيف نجحت لتجذب أهم مكاتب الأممالمتحدة لتكون مقرات آمنة لها، مثل الأممالمتحدة لمكافحة الجريمة، والوكالة الدولية للطاقة الذرية، وغيرها الكثير. الإجابة هى العقول والطاقة البشرية والنظام واحترام القوانين، فهى المحرك الأساسى لقيام الدول أو انتهائها، فدولة النمسا بها أكثر من مصنع مهم مثل مصنع محركات أكبر ماركات السيارات فى العالم، وبمدينة لينز على بعد 200 كيلو متر عن العاصمة يوجد مصنع الحديد والصلب، يقوم بتصنيع هياكل المركبات الفضائية، والمواسير التى تستخدم تحت البحار، وهو من أقدم المصانع حيث أنشئ خصيصًا من قبل الجيش الألمانى والنمساوى أثناء الحرب العالمية الثانية. فاحترام القوانين والاستثمار فى العقول، جعل النمسا تصنف من أكثر دول العالم فى جودة المعيشة والحريات، حيث النظام دون رقيب، والنظافة اللافتة للنظر، والرقى فى التعامل جعلها قبلة السياحة، والبحث عن الراحة بعيدًا عن أعباء الحياة العملية، فهى مجتمعات استطاعت أن تمحى العنصرية والتمييز، خاصة أنها تقيم الفرد بأدائه، وماذا يقدم للدولة دون النظر للسن أو اللون أو غيرها من العوامل العقيمة، وهذا ما جعل سبستيان كورتز وهو فى سن لم يتجاوز الثانية والثلاثين يصبح مستشارًا للحكومة النمساوية، ويخطط لخدمة بلاده بكل وعى وإبداع، ليحوز على إبهار الجميع من رؤساء العالم. ففيينا دولة ترغمك على عشقها بكل ما فيها، ورغم تزايد العرب الوافدين إليها سنويًا بثقافات مختلفة، فإن الكل يدور فى دائرة القانون ويحترمه، فهى دولة الذوق الرفيع حيث المسارح والحدائق والموسيقى، بلد الفن والفنانين أمثال استيفان روستى وغيره، تتجول بشوارعها فتعشق الحياة وتنسى الضغوط، حيث الجمال يحاوطك أينما ذهبت من مبانٍ عريقة، ومتاحف مفتوحة تحكى تاريخ الماضى والأكلات الشعبية التى جلبها العرب لهم، من كباب ونقانق ومشاوى وغيرها، فضلًا عن شهرتها بالبن النمساوى طيب المذاق. فإن لم تقم بزيارة فيينا فقد فاتك ليالى الإنس والكثير!