لا يسعك وأنت تعايش تفاصيل الحادث الإرهابى البشع الأخير الذى استهدف عدد اً من الأقباط بالمنيا وأسفر عن استشهاد ) 7( أشخاص وإصابة ) 20 ( آخرين.. إلا أن تستدعى ذاكرتك سيرة سلطان القلوب الصوفى الكبير «جلال الدين الرومى » الذى ولد قبل ) 800 ( سنة، وتوفى قبل ) 734 ( سنة.. والذى ما زالت رسالته السامية فى الحب الذى هو جوهر الوجود.. وسر الحياة.. تتألق وتتدفق وتتواصل منذ ثمانية عصور وحتى الآن حتى أن «اليونسكو » التى اعترفت بحاجة الإنسانية إليه.. سجلت سنة ) 2007 ( عام «جلال الدين الرومى ».. وقال عنه المستشرق أ.ج أّ ر برى: - لقد أنقذ الرومى العالم من القلق والإضطرابات قبل سبعمائة عام.. وأوروبا اليوم لن تستطيع أن تتخلص من معاناتها النفسية إلا عن طرق كتبه التى ألفها.. أما «أيرانا ماليكوف » فتقول: لئن قامت أمم العالم بترجمة كتب «جلال الدين الرومى » إلى لغاتها وقرأتها بوعى لانتهت الحروب، وأزيلت الحقود وانطفأت شرارات الكراهية والبغضاء بين البشرية جميعًا.. ولانتشر الحب والسلام فى كل أرجاء الدنيا.. فقد كان مولانا يمثل النضج العقلى فى أعلى مراتبه والنبض القلبى فى أرقى وأروع مشاعره.. واتحدت عنده «المدرسة » و «التكية ..» ولذا استطاع إشباع العقول وإرواء القلوب والأرواح فى آن واحد.. فهو دعوة مستمرة إلى الحب ونداء دائم إلى السعادة والجمال فى الماضى إلى الحاضر.. ومن الحاضر إلى المستقبل. ما يجعلنى أتحصن «بجلال الدين الرومى » تحديدًا هو ما تنبهت إليه المبدعة «أليف شافاك » صاحبة رواية «قواعد العشق الأربعون ».. وهى الروائية الأكثر مبيعًا فى تركيا، والتى نالت جوائز أدبية عالمية وتركية عديدة وترجمت أعمالها إلى معظم اللغات العالمية.. تنبهت «أليف شافاك » أن القرن الحادى والعشرين لا يختلف عن القرن الثالث عشر من أوجه متعددة.. والقرن الثالث عشر هو القرن الذى ظهر فيه «جلال الدين الرومى ..» حيث سيذكر التاريخ هذين القرنين بوصفهما زمنين من أزمنة التصادم الدينى الذى لا سابقة له وسوء الفهم الثقافى والإحساس العام بانعدام الأمن والخوف من الآخر.. وفى مثل هذه الأوقات تكون الحاجة إلى الحب أكبر من أى وقت مضى.. لأن الحب هو جوهر الحياة وهدفها.. وكما يذكرنا «الرومى » فإنه يهاجم الجميع بمن فيهم أولئك الذين يتحاشونه.. وفى التصوير الذى يأتى فى مقدمة الرواية ما يذكره المترجم د. «محمد درويش » أن القرن الثالث عشر كان حقبة مضطربة فى «الأناضول » نظرًا لما شهدته من صدامات دينية ونزاعات سياسية وصراعات لا نهاية لها على السلطة.. وفى العالم الغربى اتجه الصليبيون إلى القدس واحتلوا فى طريقهم إليها مدينة «القسطنطينية » وسلبوها مما أدى إلى تقسيم الإمبراطورية البيزنطية.. أما فى الشرق فقد توسعت رقعة جيوش المغول توسعًا مضطردًا.. وبين هاتين البقعتين خاضت القبائل التركية حربًا أهلية فى حين سعى البيزنطيون إلى استرداد أراضيهم وثروتهم وسلطتهم المفقودة.. كان عصر فوضى لا سابقة له عندما حارب المسيحيون المسيحيين وحارب المسلمون المسلمين.. وحارب المسلمون والمسيحيون بعضهم بعضًا.. وحينما استدار المرء وجد حربًا وعذابًا وقهرًا وخوفا رهيبًا من أحداث المستقبل. فى خضم هذه الفوضى الضاربة أطنابها فى كل مكان عاش المفكر والشاعر والزعيم الروحى «جلال الدين الرومى »، وكان له آلاف الأتباع والمعجبين من جميع أنحاء المنطقة وما حولها.. وكان المسلمون ينظرون إليه بوصفه منارة. وحينما التقى «الرومى « » بشمس التبريزى »الدرويش.. غير ذلك اللقاء من حياتهما.. وتحول«الرومى » من رجل دين اعتيادى إلى صوفى ملتزم وشاعر مشبوب العاطفة.. مدافع عن الحب ومبتكر رقصة الدراويش الدائرية المثيرة وبلغت به الجرأة حد الخروج عن القواعد المألوفة والأعراف المستقرة والقوالب الجاهزة.. والأفكارالتقليدية الثابتة.. وفى عصر اتسم بالتعصب الأعمى والتشدد المذهبى الصلب ناصر «الرومى » الروحانيات الكلية وفتح أبوابه للناس على اختلاف أفكارهم وتصوراتهم.. وبدًل من الجهاد الموجه إلى الخارج - الذى يعرف «بالحرب على الكفار » فإن «الرومى » مثل الجهاد الموجه إلى الداخل حيث يتجسد الهدف فى الجهاد ضد النفس. وفى الجهاد ضد النفس المضطربة العاصية يتشكل ويتكون «دين الحب » الذى يؤمن أن إدراك الحقيقة عمل من أعمال القلب وليس العقل «دع قلبك يرشدك أوًل وليس عقلك.. قابل نفسك وتحداها وسيطر عليها بقلبك.. إن معرفتك بنفسك ستقودك إلى معرفة الله ».. وفى قصيدة للرومى يقول مطلعها:توجه للحب يا حبيبى.. فلولا حياة الحب الجميلة / لكانت الحياة عبئا ثقيلًآ..إن المدن تشيد على أعمدة روحية وهى تعكس قلوب سكانها شأنها شأن المرايا العملاقة فإذا اسودت تلك القلوب وفقدت إيمانها فإن المدن ستفقد بهاءها بدورها. إن البحث عن الحب يغيرنا - وما من باحث بيننا يسعى وراء الحب ولم ينضج فى طريقه إليه، ففى اللحظة التى تبدأ فيها بالبحث عن الحب يبدأ التغيير عليك باطنًا وخارجًا.. تلك هى رسالة «الرومى » إلينا.. علينا اختيار أحد النقيضين ولا شىء آخر بينهما إما الحب الصافى أو الكراهية الشديدة.. فى طريق «الحب » ننبذ الكراهية فما من حكمة بلا حب.. ومالم نعرف كيف نحب مخلوقات الله فإننا لا نستطيع أن نحب الله حبًا صادقا أو نعرفه معرفة حقيقية.. أما الكراهية فهى تكمن فى الداخل.. ويشبهها «الرومى » بالقذارة التى تلوث النفس وتلتصق بها التصاقا لا يزول ففى إمكاننا تنظيف أجسادنا بالتقشف والصوم ولكن الحب وحده هو الذى ينقى القلب.