كان الوزير طارق شوقى صادقًا عندما قال إن نصف وزارة التربية والتعليم حرامية. وكان الوحيد الذى أذاع السر الذى يعرفه الجميع. وصار بعدها فى مهب الريح، واشتعلت نقابة المعلمين غضبًا، وهددت النقابة المستقلة بملاحقته قضائيًا. أراد الوزير المهذب أن يتراجع بلسانه قليلًا. ربما لأن كلماته طالت بلا ذنب بعض الشرفاء. مع أنهم كان من الواجب أن يعتبروا أنفسهم من النصف الآخر. والسؤال التعليم فى مصر إلى أين ؟ قرأت من يومين رسالة لمدرس. قال إن راتبه ألف جنيه. ومضطر للدروس الخصوصية. ليحقق دخلًا ثلاثة آلاف جنيه تكفيه بالكاد لسداد نفقات الحياة. وكان هذا المدرس صادقًا أيضًا. قال الوزير منذ أشهر أن الدولة لا تستطيع تقديم التعليم المجانى ل20 مليون طالب. كلمات الوزير ألمحت إلى محنة المصريين مع الدروس الخصوصية. التى ألغت بالفعل مجانية التعليم. ويبدو أنها ستظل نيرًا معلقًا فى رقابنا إلى الأبد. لأن الثورة اندلعت فى نقابة المعلمين اعتراضًا. أسوأ الكتب كتب التربية والتعليم طباعة ومحتوى.. والبنايات تهالكت. والتغذية وهم. والهوايات والأنشطة كالرياضة والموسيقى والرسم والتربية الزراعية ألغيت. صارت الفصول بلا أنشطة مصانع للمجرمين، وأغلب المدارس خالية، ولا تختلف فى الإجازة الصيفية عن أيام الدراسة، بينما قاعات فيلسوف الجبر وعبقرى الكيمياء من جهابذة الدروس الخصوصية مزدحمة لتمتص من دماء المصريين الغلابة ما يقرب من 30مليار جنيه سنويًا، ومع أول تصدٍ هددتنا نقابة المعلمين بإيقاف التعليم وتعطيل المدارس. قال الوزير أمام الرئيس أن فى مصر 55 ألف مدرسة. وهو قول غير دقيق. فى مصر 25 ألف بناية مدرسية. بعض البنايات على واجهتها لافتتان وأحيانا ثلاثة. داخل المدرسة ثلاث مدارس بالتناوب.. الذى أجرى التعداد أحصى اللافتات.باعتبار أن كل لافتة مدرسة. مع أن نصف هذه المدارس بلا بناية. وقرأت تصريحات لوزير التربية والتعليم بشأن وفاء الوزارة بوعدها فى تقديم نظام تعليمى مطوّر، واستبدال نظام الثانوية العامة لتقييم الطالب ثلاث سنوات بحيث لا يقتصر التقييم والقبول بالجامعات على الامتحانات. آخر نتيجة حقيقية للثانوية العامة بلا تزوير صدرت فى 1952. كانت النتيجة على ما أتذكر 41 بالمائة، وبعدها صارت الثانوية العامة قضية اجتماعية سياسية وطنية، ولم يعد مقبولًا أن تقل نسبة النجاح عن 70 بالمائة. وقتها كان يتصارع على قيادة التعليم أستاذان يدافع كلاهما عن مدرسته: إسماعيل قبانى ويمثل المدرسة الإنجليزية ومنهجها فى المدارس والمدرسة الفرنسية بقيادة عميد الأدب العربى د. طه حسين. عقب يوليو جرى استبعاد الاثنين، لتعمل الوزارة لأول مرة بلا منهج، وجرت مصادرة المدارس المقامة بمجهودات المجتمع المدنى والأوقافات وضمها لمدارس الوزارة، ولعل أشهرها سلسلة مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية، وتولى وزارة التربية والتعليم الصاغ كمال الدين حسين، وكان من مآثره العظيمة طبقًا لدعاية الناصريين والثوار بناء مدرسة كل يوم، لكن أحدًا لم يسأل ما علاقة جناب الصاغ – الإخوانجى - بالتعليم والعمليات التربوية، كما أن أحدًا لم يعترض على اختلال المناهج بوصفها الأهم فى العملية التعليمية، بعد أن دخلت عليها مقررات التربية القومية، وأصبحت أسماء المدارس: الجلاء - الوحدة العربية - الثورة - التحرير - ناصر - وهكذا بدأت تنمو عشوائيًا تراكمات وجود المدارس ونجاح الطلاب بلا تعليم. لم يكن التعليم الحكومى رديئًا فى زمن الملكية. الزعيم مصطفى كامل كان يكتب فى مجلة لافييت، أوسع المجلات الثقافية فى فرنسا فى زمانه مدافعًا عن حقوق بلاده. عمره 17 عامًا، ولاقى إعجابًا واسعًا بأسلوبه وبلاغته، وكان طالبًا بمدرسة حكومية. ولم يكن أولاد الفقراء محرومين من التعليم، فقد ارتقى الطالب الأعمى طه حسين الفقير ابن عزبة الكيلو بالمنيا ليصبح على رأس الثقافة والتعليم فى مصر. أمر آخر، فقد جرى بجرة قلم إلغاء التعليم الإلزامى، وكانت الابتدائية وقتها شهادة حقيقية. زادت نسبة الأمية وما زالت تتصاعد، وتجاهل أهل الثقة تجارب الجامعة العمالية وإبراهيم شكرى، حينما كان يجرى تدريب الملتحق بفصول محو الأمية على حرفة كالنجارة أو الكهرباء أو هواية كالرسم أو التطريز إلى جانب تعلم الأبجدية حتى لا ينسى الدرس، لكن كل هذا ضاع بفضل القائمين على جهاز نشر الأمية، الذى الآن يعج بمستشارين يهبطون عليه من السماء، بينما مدرس محو الأمية يقف فى الشمس والحقول عاجزًا وفقيرًا. ولا أعرف كيف تتجاهل دولة تعانى من انفجار بشرى رهيب قضية التعليم وعلاقتها بمحو الأمية. باعتبارهما السبيل الوحيد للتقدم ولإيقاف زيادة السكان.البواب فى مصر ينجب 8 أولاد على الأقل وأستاذ الجامعة طفلين. وكلاهما يسكن مكانًا واحدًا. والسبب الفرق بين الأمية والتعليم. الجهاز - محو الأمية - مكتظ بمستشارين يتقاضون عشرات الآلاف من الجنيهات وحصة مدرس محو الأمية ما زالت جنيها ونصف للحصة ومائة جنيه على كل رأس بعد الانتهاء من محو أميتها. وطوال الوقت مطلوب التسول للبحث عن مكان للحصص كدوار العمدة أو جدار إحدى الخرابات أو المدارس فى المساء. نعود للتعليم، وكان طبيعيًا أن تنهار مكانة المدرس مقارنة بالمهن الأخرى، وكان حتى يوليو لا يقل عن الضابط أو المهندس. كان المدرس حتى نهاية الخمسينيات يعبر الشارع مزهوًا ومعطرًا،حفاظًا على مهابته أمام التلاميذ، واليوم يبدو طبيعيًا رؤية الأستاذ الشريف، وهو يقفز من السور ليلتهم رغيفًا من الفول أو يتشعبط فى الأتوبيس أو ينال علقة ساخنة من أولياء الأمور. كنت فى زيارة لروسيا، واكتشفت أن راتب المدرس أعلى من أستاذ الجامعة، لأنه الأكثر تأثيرًا على عقول الطلاب، وطالعتنا المستشارة الألمانية ميركل بتصريح قاطع عندما طالب ضباط الشرطة والقضاة مساواتهم بالمعلمين فى المدارس فقالت غاضبة: «كيف تطلبون المساواة فى الأجر مع من علموكم ؟» لكننا فى مصر نمسح بالمدرس البلاط، ونذيع بذاءات عادل إمام فى مسرحية مدرسة المشاغبين، التى شوهت على الطريقة المصرية الفيلم الأجنبى: «إلى أستاذى مع حبى «لسيدنى بواتييه، وننسى أن مصر كانت تتغنى يومًا ببيت شعر أحمد شوقى: «قم للمدرس وفّه التبجيلا.. كاد المعلم أن يكون رسولا». واليوم ينطبق علينا قول الشاعر: «العلم يبنى بيتا لا عماد له والجهل يهدم بيت العز والشرف»، الآن نهدم حياتنا بغياب التعليم وبالمدارس الأجنبية التى تسرطنت فى كل مكان. بالأمس القريب تقابلت مع إحدى قريباتى. ابنتها تريد الغناء، قلت وما المانع؟، لكننى فوجئت بأنها تغنى بالإنجليزية والفرنسية فقط، وشعرت بالغيظ وقلت لها إن الأوروبيين لديهم مطربوهم ولن ينتظروها، فقالت: «العربى صعب جدًا وأنا أريد أن أعرف منك ما الفرق بين: الزين والظاء والذاى؟». شرحت لها الفرق لمدة نصف ساعة وخرجت معلولًا من الدرس. نرجو من الوزير ألا يتراجع عن كلامه. وأن يتصدى لهؤلاء لإصلاح التعليم ولا يتراجع. مدارسنا متهالكة والمعلم فقد هيبته واحترامه والتلميذ ضائع وأولياء الأمور فى محنة. كل هذا والدنيا قامت ولم تقعد لأن الوزير وضع يده داخل جحر الأفاعى. واضطر الوزير للتراجع والاعتذار. للأسف اليوم تنطبق علينا حكمة الشاعر الكبير نجيب سرور حينما قال قبل أن يضربه الجنون: « قال المدرس: بال «الشحبول» على الحائط سأل التلميذ: ومامعنى الحائط ؟ ».