استقبلت أغلب الأوساط الاقتصادية والسياسية موافقة صندوق النقد الدولي على منح مصر قرض ال 12 مليار دولار بفرحة عارمة على اعتبار أنه شهادة ثقة كبرى في مسار الاقتصاد المصري وأنه يدعم مشروعات التنمية التي تعقد الحكومة عليها آمالاً عريضة في تحريك عجلة الاقتصاد المصري وتعويض ما فقدته مصر بسبب غياب أهم موارد النقد الأجنبي المتمثلة في السياحة . إلا أن وصول الدفعة الأولى من قيمة القرض التي حصلت عليها مصر الشهر الماضي أثار حالة غير متوقعة من الجدل بسبب ما أثير من توجيهها بالكامل لسد عجز الميزانية والنقص الملحوظ في العملات الأجنبية .. مما حدا بالبعض للتحذير من الآثار السلبية المترتبة على هذه الخطوة . كما جاءت إجراءات الإصلاح الاقتصادي التي شملت تعويم الجنيه المصري بعد تخفيض قيمته بنسبة اقتربت من النصف .. إضافة إلى رفع أسعار الوقود وما استتبعه من اشتعال أسعار كافة السلع والخدمات الأمر الذي ألقى بأعباء كبيرة على كاهل المواطنين .. هذا بخلاف ما تردد عن وجود ترتيبات حكومية للاستغناء عن نحو مليوني موظف بالجهاز الإداري للدولة ، وذلك استجابة لشروط صندوق النقد الدولي لاستكمال صرف باقي الشرائح .. مما ألقى بظلاله القاتمة على كافة مناحي الحياة وأثار مخاوف عديدة من ان تستتبعه إجراءات أشد قسوة يدفع ثمنها المواطن البسيط . وإن كان هذا على صعيد تأثر الحياة اليومية للمواطنين .. فإن هناك جدل من نوع آخر أثاره حصول مصر على هذا القرض الذي يعتبر الأضخم في تاريخ مصر ، ويتعلق هذا الجدل بمخالفة اتفاق صندوق النقد الدولي لنص المادة 127 من الدستور التي تنص على عرض الاتفاقيات الخاصة بالتمويل على البرلمان قبل الحصول عليها . وعلى هذا النحو أثارت المادة 127 من الدستور شكوكًا واسعة حول مدى دستورية قرض صندوق النقد الدولي، الذى حصلت عليه مصر مؤخرًا، بسبب الترتيب في الموافقات على القرض من الجانب المصري، أيهما يوافق أولا الحكومة أم البرلمان، حيث تنص هذه المادة، الموجودة ضمن باب السلطة التشريعية على أنه : "لا يجوز للسلطة التنفيذية الاقتراض، أو الحصول على تمويل، أو الارتباط بمشروع غير مدرج في الموازنة العامة المعتمدة يترتب عليه إنفاق مبالغ من الخزانة العامة للدولة لمدة مقبلة، إلا بعد موافقة مجلس النواب". ولم يعد أحد يعلم ان كان مجلس النواب عليه ان يطبق الدستور ويناقش هذا القرض .. فكيف يكون الحال إذا رفضه هل سنعيد الأموال إلى صندوق النقد .. أم أن عرض القرض على البرلمان سيكون بمثابة "تحصيل حاصل" وبالتالي لن يكون أمامه سوى الموافقة عليه .. كما أن الغموض الذي يكتنف اشتراطات الصندوق يثير مخاوف ليست بالقليلة .. فلا احد يعلم شيئا على وجه التحديد عن شروط هذه القرض ولا حتى من وقت عليه سواء كان محافظ المركزي او وزير المالية خصوصاً وأن كل الإجراءات التي اتخذت سواء خاصة بالدعم او التعويم مرتبطة بهذا القرض وإذا كنا بصدد الحصول على الشريحة الثانية ما هي الإجراءات التي ستتخذها الحكومة قبل الحصول عليها . فليس بعيداً عن الذاكرة التجارب سيئة السمعة لقروض صندوق النقد الدولي في العديد من البلدان المتعثرة .. ففي بداية الثمانينيات، بدءًا من 1985، اقترضت البرازيل مليارات جديدة لسداد القروض القديمة، ثروة بلاد السامبا بالكامل عبرت الحدود إلى دول تدّعي أنها صديقة على شكل أقساط، فقد سدّدت في أربع سنوات، 148 مليار دولار، أكثر من نصفها "فوائد قروض أجنبية". في الأخير استسلمت البرازيل لمقترحات "النقد الدولي"، فسرّحت ملايين العمال، وخفضت أجور الآخرين لعلاج التضخم المالي، وألغت التغذية المدرسية للطلاب، وسمحت لدول أخرى بالتدخل في سيادتها مقابل المبالغ المدفوعة كقروض، حتى أن مندوبي البنك الدولي فرضوا موادًا على الدستور البرازيلي أشعلت الاحتجاجات الأهلية. وبالرغم من سداد البرازيل لقروضها بالكامل، إلا أنّ الآثار الجانبية لم تزل باقية، حيث ظلّ 20% من البرازيليين يمتلكون 80% من أصول الممتلكات، وفقًا لإحصاءات، و1% فقط يحصلون على نصف الدخل القومي، وهبط ملايين البرازيليين أسفل خط الفقر، حيث أصبح نصف الشعب يتقاضى أقل من 80 دولارًا شهريًا. وتعتبر حالة اليونان دليل آخر على الدور الخبيث للصندوق في هدم الدول النامية، فقبل دخول الاتحاد الأوروبي، كانت اليونان بلا استثمارات أو شركات أو سيولة مالية .. ومع دخولها الاتحاد الأوروبي رغم اقتصادها الهش، كان على الجميع أن يقدم خدماته لإنقاذها، فدفعت أوامر عليا منظمات التمويل الأجنبي لإقراض الحكومة اليونانية بصورة كبيرة، تبعها فرض سياسة التقشف في اليونان وارتفاع أسعار البترول، فتضاعفت أسعار جميع السلع وانخفض الوضع المعيشي للسكان ووصلت نسبة البطالة إلى 27%. .. وفي عام 2009، اكتشفت اليونان أن عليها أن تسدد دينها، بنسبة فوائد على الدين، تكسر ظهر اقتصادها، واستمرّت في الارتفاع حتى تدخل صندوق النقد الدولي ووضع شروطه وخطط التقشف التي سحقت الفقراء سحقًا، والمقابل هو استمرار الدعم، وهو ما لم تتحمَّله اليونان، إذ ارتفعت نسبة الديون إلى 175% عام 2015 . فانخفض الوضع المعيشي للعمال والفلاحين والفئات الوسطى ووصلت نسبة البطالة إلى 27%، واندلعت احتجاجات، وخرجت مظاهرات، اعتراضًا على ذلك الوضع في معظم أنحاء البلاد، ووقع المواطن الرافض لتلك السياسة في مواجهات مع الشرطة، ووقعت إضرابات وصلت إلى العصيان المدني في الهيئات الحكومية ضد التقشف .. ورغم كل ذلك، أعلن صندوق النقد الدولي عجز اليونان عن سداد الديون، خاصة أنها فشلت في دفع مليار ونصف مليار يورو مستحقة عليها، وهو ما يبشِّر بخروجها من منطقة اليورو. كل هذا وغيره يعطي إشارات تستوجب الحذر إزاء حالة قرض صندوق النقد الدولي لأنه وبكل تأكيد لن يعطي مجاناً وبدون إملاءات .. وبكل صراحة الشعب لا يحتمل المزيد .