*عشرة جنيهات فقط تفتح لك بابًا سحريًا على ذكريات وخيبات وانتصارات جيل الشباب فى مصر *حجز التذاكر يحتاج إلى «خارطة طريق».. وأغانى الثمانينيات ترحب بالجمهور قبل بداية العرض *الضحكات والدموع تتوالى خلال المسرحية فى عملية «بسترة عاطفية» تستمر 100 دقيقة هذه المسرحية هى ظاهرة فنية لافتة بكل تأكيد، بل ربما تكون الظاهرة الفنية الأبرز هذا العام، لو استثنينا بارتياح رواية عمرو خالد الأولى «رافى بركات»، وعمل زاب ثروت الذى لن تعرف هل هو كتاب أم رواية أم خواطر أم مقلب أم ماذا! ولكى تدرك إلى أى حد أصبحت «1980 وانت طالع» ظاهرة فنية، يكفى أن تعرف أن السياسى المعروف وأستاذ الجامعة د. عمرو حمزاوى غرد على تويتر يشجع الجمهور على زيارة المسرحية، وأعقب التغريدة بمقال كامل عن المسرحية.. فلو كنت من محبى تحليلات د. حمزاوى عليك أن تثق فى رؤيته الفنية أيضا! ببطء ولكن بثقة يتزايد متابعى المسرحية التى عرضت للمرة الأولى فى أواخر عام 2011، وبعد أن كان يشاهد العرض فى بداياته 5 أفراد فقط بدأت شهرة العمل تزيد، وحصل فريق «1980 وانت طالع» على شجاعة تأجير مسرح خاص من أجل استقبال الجمهور فيه، بدلا من الاعتماد على مسارح الدولة، لهذا انتقل العرض بين الأوبرا ومسرح الجيزويت برمسيس إلى أن استقر حاليا بمسرح الهوسابير فى شارع الجلاء، واعتمد فريق العمل فى الدعاية على «Word of mouth» فقط.. أى أن من يشاهد المسرحية ستعجبه ويحكى عنها لأصدقائه، ولم يتكلفوا أى مبالغ مالية فى الدعاية عن العرض.. بل إن مخرج العمل محمد جبر مازال يطلب من المشاهدين بعد انتهاء العرض أن يحكوا لأصدقائهم عن المسرحية، وبالتأكيد كان هذا الأسلوب ناجحا عندما كان كل من فى الصالة يمكن عدهم على أصابع اليد الواحدة، وهو الذى ساهم فى تكوين كرة الثلج الأولى. مسرح «باعث الأمل» ولأن الجواب بيبان من عنوانه أحيانا، فإن دلالة اسم الهوسابير ترتبط بالمسرحية بشكل مدهش.. فكلمة هوسابير (مع الشكر للخواجة جوجل) كلمة أرمينية الأصل معناها «باعث الأمل».. ولعل القدر هو من اختار لهؤلاء الشباب أن يقدموا رؤيتهم للواقع الحالى على مسرح «باعث الأمل». من البداية يجب أن تنتبه عزيزى القارئ إلى أنك ستعانى كثيرا للحصول على تذكرة لدخول العرض.. ولو أنك معتاد (مثلى) على قطع تذكرة أى حفل أو عرض سينمائى قبل ميعاد الدخول بخمس دقائق، وأحيانا بعده بخمس دقائق، فلا داعى لأن تنزل من بيتك أصلا.. الإقبال الشديد على المسرحية جعل فريق العمل يضع «خارطة طريق» صارمة لمن يريد مشاهدته.. خارطة الطريق تحوى تعليمات دقيقة هدفها مصلحتك فعلا: فتح شباك التذاكر الساعة السادسة فتح باب الدخول الساعة السابعة رفع الستار الساعة الثامنة إلا ربع وإذا سألت نفسك السؤال الوجيه: «وهاعمل إيه من الساعة 6 للساعة 7» فالإجابة هى: «هاتقف فى الطابور طبعا.. مافيش حاجة تانى تتعمل». فى الحقيقة لا أذكر أنى رأيت طابور بهذا الازدحام إلا فى استادات كرة القدم.. وفعلا همست لمن يقف بجوارى خلال ساعة الانتظار الطويلة: «ياريت لو الداخلية فكرت تفض الطابور ده ماترميش قنابل دخان.. أنا أصلا أهلاوى !».. لكنه لم يفهم ما أقصده. التذكرة بعشرة جنيهات فقط.. وهى من الأشياء القليلة الممتعة التى تستطيع فعلها ب 10 جنيهات فى أيامنا هذه، وقد أصر فريق العمل على عدم رفع سعرها رغم الإقبال الأسطورى، لأنهم يرغبون فى أن تصل رسالتهم إلى أكبر جمهور ممكن، والجمهور بدوره ينتظر أمام باب مغلق بصبر حقيقى.. ورغم ارتفاع حرارة الجو وقلة التهوية إلا أن الكل متحمس لرؤية المسرحية التى يتحدث عنها كل المصريين (صفحة الفيسبوك تنشر يوميا صور النجوم الذين يشاهدون العرض كل ليلة، ومنهم على سبيل المثال هند صبرى وبسمة وصبرى فواز وكندة علوش والسيناريست تامر حبيب والمخرج يسرى نصر الله والمخرج عمرو سلامة وغيرهم) وبعد ساعة من الانتظار انفتحت أبواب المسرح، وتم دخول الجمهور بنظام وبدون مشاكل.
خلال ساعة الانتظار داخل المسرح كانت السماعات تذيع عددًا من أغانى الثمانينيات الشهيرة، على سبيل تجهيز الجمهور وجدانيا للعرض الذى سيتكلم عن هذا الجيل تحديدا، وكانت أكثر الأغنيات تفاعلا من الجمهور هما أغنيتا «شوقنا» ل عمرو دياب، و«نار» ل«حكيم».. رغم أن الكثيرين من الحاضرين كانوا أقل من 20 عامًا. مش ألتراس بس بنحترمهم عادة ما يكون رفع سقف التوقعات فى أى عمل فنى ضد مصلحة العمل.. وهذا ما حدث بالنسبة لى مع المسرحية.. فالعرض يبدأ بإيقاع بطىء نسبيا، وبحوار مباشر وسطحى فى مشهد عن عدم تفهم الآباء للأبناء والفجوة بين الأجيال.. أعتقد أن حذفه سيكون أفيد لإيقاع العرض ولمستوى المسرحية عموما، لأن كل ما بعده أفضل.
المسرحية تؤرخ بشكل ما لما حدث لجيل الشباب من خيبات خلال الخمس سنوات الماضية، وتركز على ان الآمال الكبرى التى بناها الشباب لبلدهم بعد نجاح ثورة يناير من حرية وعدالة اجتماعية قد «سرقت» منهم بأيدى مختلفة.. وانفجارات التصفيق التى يهتز لها المسرح كل حين وآخر تؤكد أن هذا ليس رأى فريق العمل فقط، بل هو رأى جمهور الشباب أيضا، لدرجة أن أكثر مشهد حاز على «سوكسية» من الجمهور هو أغنية الألتراس «حرية» التى غناها الممثلون، رغم أن الجمهور لا ينتمى للألتراس إطلاقا، ونصفه من الفتيات.. لكنه إحساس عام بين الشباب الذين ولدوا من 1980 وانت طالع بأن هناك مجموعة من القوى خدعتهم وسرقت حلمهم، وبعد ذلك سرقت منهم حتى القدرة على الحلم، وهو ما يظهر فى مشهد تسلق الهرم. العرض ليس له خط درامى واحد، بل هو عبارة عن عدد من المواقف أو «الاسكتشات» المختلفة، وهو إطار فنى يتيح حرية مطلقة لصناع العمل على الإبداع فى أى اتجاه. من ضمن سلبيات العمل مشهد طويل يقف فيه الأبطال جميعا فى مواجهة الجمهور، ويلقى كل منهم «جملة» تحمل دلالة معينة، كأنها رسالة تلغراف سريعة إلى مشكلة اجتماعية أو سياسية ما، مثل «إحنا حضرنا جنازات أصحابنا أكتر ما حضرنا أفراحهم» أو «هو رئيس الجمهورية لازم يتخرج من الكلية الحربية؟» أو «ليه الراجل اللى مابيتجوزش مابيقولوش عليه عانس؟» ورغم تفاعل الجمهور الإيجابى مع هذه الجمل التلغرافية، إلا أن هذا الأسلوب به الكثير من الاستسهال والمباشرة، فالفن لا ينبغى ان يؤدى بهذه الطريقة، وإلا لأمكن اختزال المسرحية كلها إلى مقال طويل أو مجموعة من الحكم والمواعظ، فالإبداع الحقيقى هو تجسيد هذه «الإكليشيهات» فى إطار فنى وليس مجرد تلاوتها مباشرة على الجمهور. زمن المستقبل الجميل وفى مشهد ساخر جدًا يتخيل مؤلف العرض محمود جمال كيف سيكون عليه حال مصر فى المستقبل فى سنة 2150.. لنكتشف أن دوام الحال ليس من المحال كما كنا نظن، فكل شىء سيبقى كما هو بدون تغيير، الأسعار تزيد، والبهائيون مضطهدون (يقودهم بهاء سلطان على سبيل النكتة)، وشعار «الثورة مستمرة» مستمر هو كمان، والنزول يوم 25 يناير يتكرر بلا هدف، ومبارك مازال ينتقل من وإلى مستشفى المعادى العسكرى، وحفيد عبد الرحمن الأبنودى يكتب قصيدة شعر عبارة عن كلمة واحدة، وعمرو دياب بقى هو زمن الفن الجميل، ومحدش مصدق إن أحمد حلمى كان متجوز منى زكى. مشهد آخر يذكرك بحبكة فيلم «هاتولى راجل»، رغم أن المسرحية تعرض منذ حوالى 4 سنوات، أى أن المسرحية سبقت الفيلم، وفيه تتبدل الأدوار بين الرجال والنساء فى المجتمع، فتصبح المرأة هى الآمر الناهى والرجل هو الطرف الضعيف المغلوب على أمره، وهى محاولة ذكية من صُناع المسرحية كى يضعوا الرجل فى حذاء المرأة، لجعله يستوعب مدى القهر التى تشعر به الفتيات فى المجتمعات الشرقية. البسترة العاطفية العرض يحمل الكثير من روح المصريين المرحة التى تجعلنا نسخر من مشاكلنا بدلا من أن نستسلم لها، لهذا فحتى فى المشاهد الميلودرامية الحزينة سيعاجلك أحد الممثلين بإيفيه مضحك يحرجك من المود الحزين ويصيبك بالبسترة العاطفية، فلا تدرك هل من المفروض أن تكون حزينًا أم سعيدًا الآن ! أداء الممثلين كان مناسبًا جدًا، خاصة أن كلهم من الهواة، باستثناء ممثل واحد فقط كان «أوفر أوى أوى»، ولا أدرى لو كان هذا مقصودًا أم لا، لكنه كان مزودها شوية، لكن هذا لا يمنع أن العرض كان ممتازًا لدرجة حصوله على جائزة أفضل عرض مسرحى مصرى لعام 2013 من مهرجان المسرح القومى، وأيضا جائزتا أفضل مؤلف وأفضل مخرج صاعد. كل الآراء على صفحات الفيسبوك أجمعت على شىء واحد «انتو قلتو كل اللى جوانا بالظبط».. وأعتقد أن هذا ما يريده صُناع العمل، التعبير عن هذا الجيل بلغته وأسلوبه ومفرداته.. وخلال هذا تغفر أى أخطاء فنية فى إطار تأريخ لما وقع للشباب الذين يمكن أن نطلق عليهم «جيل الثورة». 1980 وانت طالع كرة ثلج ظلت تكبر وتكبر حتى صارت ظاهرة كبيرة.. ستدرك وأنت تتابع يوميًا ردود الأفعال الإيجابية عنها على صفحات مواقع التواصل الاجتماعى وصفحة المسرحية نفسها أن أبطال العرض كسروا حاجز الصمت الذى ساد فى المجتمع خلال السنتين الماضيتين، وكسروا معه حاجز الصوت ليصبح صوتهم ثورة فنية تخطف نجوم الشباك وتجبرهم على الجلوس للاستمتاع بصعاليك المسرح وهم يحطمون أصنام العنصرية والتخلف والتشدد والظلم.. ستضحك كثيرًا إذا شاهدت العرض مع شلتك، وستبكى كثيرًا لو شاهدته وحدك.. لكنك فى كل الأحوال ستخرج سعيدًا بأنك تنتمى لجيل 1980 وأنت طالع. الليلة الكبيرة أوى أيضًا من ضمن السلبيات وجود نصوص قديمة من الواضح أنها مكتوبة منذ أيام كان المجلس العسكرى فى السلطة، وظلت فى العرض على سبيل الاستخسار.. لكن الأفضل هو حذفها لأنها لم تعد مناسبة للوضع الحالى، كأنك تسمع نكتة عن التوريث الآن، قد تكون نكتة مضحكة لكنها خارج السياق. ويقدم الممثلون أوبريتًا غنائيًا على موسيقى «الليلة الكبيرة» يحكون فيه «حكاية الثورة» بشكل غنائى، ويسخرون فيه من كل أشكال الحكم التى مرت على مصر فى السنين الأخيرة مثل المجلس العسكرى وجماعة الإخوان وحتى نظام الدولة الحالى بشكل فنى خفيف الدم. أيضًا من المشاكل التى عالجها العرض مشكلة تأخر سن الزواج لدى الشباب، وأن عدم توافر الماديات ستجعل أقرب فرصة للشباب لتغيير حالته الاجتماعية لن تصل إلا بعد أن يغادر مرحلة الشباب إلى مرحلة القبر ! أيضا تناول العرض مشكلة البطالة، وعدم توافر فرص العمل، من خلال شخصية شاب يعمل بائعًا متجولًا على المقاهى، ويكافح من أجل الارتباط بحبيبته، التى تعلم جيدًا أنه يكذب عليها وأنه لن يستطيع تدبير متطلبات الزواج، لكنها تكمل ارتباطها به لأنها أجبن من أن تواجه الواقع.. وتم تقديم هذا الجزء بشكل ميلودرامى قاسٍ جدًا، ربما يكون جلب الدموع إلى عيون بعض المشاهدين العاطفيين. أفضل المشاهد من وجهة نظرى وأقدرها على توضيح رؤية المسرحية بشكل فنى وليس وعظيًا كان مشهد تسلق الهرم، وفيه يجتمع 5 أصدقاء مرة أخرى بعد انقطاع، ويحاولون تسلق أحجار الهرم الأكبر كما اعتادوا دائمًا.. لكنهم يفاجأون بأن قدراتهم قد ضعفت.. وأن خفة حركتهم لم تعد كما كانت رغم أنهم ما زالوا فى شرخ الشباب.. ويصاب الجميع بالإحباط ويفكرون فى النزول مرة أخرى والاكتفاء بما وصلوا له.. لكنهم فى النهاية يواصلون التحدى، مؤمنين أنهم سويا «هنطلع الصخرة... وهنشبك لبعض أيدينا» لأن قمة الهرم أقل من طموحهم، ولأن قدرتهم على الحلم لم تمت.