تنسيق الدبلومات الفنية.. استثناء ال50 الأوائل من قواعد القبول الجغرافي بالجامعات    النائب عصام هلال: انتخابات الشيوخ تمثل استحقاقًا دستوريًا بالغ الأهمية ومشاركة المواطنين واجب وطني لدعم بناء الدولة    وزير الأوقاف: شراكة الإعلام والمؤسسات الدينية خطوة تاريخية لمواجهة تحديات العصر الرقمي    وزراء العدل والتخطيط والتنمية المحلية يفتتحون فرع توثيق محكمة جنوب الجيزة الابتدائية | صور    الرئيس السيسى يستعرض مع رئيس غانا فرص تعزيز التجارة البينية وتذليل التحديات لضمان التكامل القاري    التعليم العالي: احتفالية بمناسبة مرور 50 عامًا على التعاون العلمي بين مصر وإيطاليا    وزير قطاع الأعمال العام: انفتاح كامل على تعزيز الشراكة مع القطاع الخاص    خبراء: قرار تثبيت أسعار الفائدة جاء لتقييم الآثار المحتملة للتعديلات التشريعية لضريبة القيمة المضافة    190 ألف طن صادرات غذائية مصرية خلال أسبوع والعنب والفاصولياء فى الصدارة    رئيس الوزراء يوجه الجهات الحكومية بضرورة الالتزام بسداد مستحقات شركات الكهرباء    وزيرة التضامن تكرم الإدارة العامة للاتصال السياسي تقديرًا لجهودها في خدمة العمل البرلماني    جهاز مدينة العبور يعلن تحديث وتطوير المركز التكنولوجي لخدمة المواطنين    نص كلمة الرئيس السيسي في أعمال الدورة السابعة لاجتماع القمة التنسيقي لمنتصف العام للاتحاد الأفريقي    العراق يشيد بالاتفاق بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستانى : سينعكس إيجابيا على المنطقة    أحدهما يحمل الجنسية الأمريكية.. تشييع فلسطينيين استشهدا جراء هجمات مستوطنين بالضفة    استعداداً للموسم الجديد .. محمد صلاح يقود هجوم ليفربول ضد بريستون ودياً    مقابل 5 ملايين دولار .. إبراهيم عادل يقترب من الانتقال للجزيرة الإماراتى    عرض جديد من أرسنال لخطف نجم الدوري البرتغالي    نجم مودرن سبورت.. صفقة جديدة على رادار الزمالك    أستون فيلا يتمسك بواتكينز.. ونيوكاسل يدرس البدائل    نتيجة الدبلومات الفنية 2025.. الآن اعرف نتيجتك على صوت الأمة برقم الجلوس    رياض الخولى رئيسا للجنة تحكيم مسابقة العروض المسرحية بالمهرجان القومي للمسرح    تحت رعاية فضيلة مفتي الجمهورية.. دار الإفتاء المصرية تفتتح برنامج تدريب الصحفيين على تغطية القضايا الدينية والإفتائية    معارض هيئة الكتاب.. قوافل ثقافية في المحافظات ومشاركة دولية بارزة    وكيل الأزهر يدعو الشباب للأمل والحذر من الفكر الهدام    وزارة الصحة تكشف حقيقة وفاة 4 أشقاء بالالتهاب السحائى.. اعرف ماذا قالت ؟    رئيس هيئة الرعاية الصحية : تكلفة تشغيل التأمين الصحي الشامل بمحافظات إقليم الصعيد تجاوزت 27.5 مليار جنيه حتى الآن    علامات تشير إلى وجود دهون حول قلبك.. تعرف على المخاطر المحتملة    مساعدات أممية طارئة لدعم الاستجابة لحرائق الغابات في سوريا    محافظ أسوان: دخول 24 مدرسة جديدة للعام الدراسي القادم    تامر حسني يعلن عن مسابقة بالتزامن مع طرح ألبومه "لينا معاد"    4 أبراج تقول «نعم» دائما حتى على حساب نفسها (هل أنت منهم؟)    وزارة الثقافة تُطلق البث التجريبي لموقعها الإلكتروني الجديد    موهبة نادرة.. ميريام طفلة مصرية تتقن العزف والغناء    مكافحة الحرائق.. مشروع تخرج بهندسة المطرية -تفاصيل    بعد قبول الاستئناف.. أحكام بالمؤبد والمشدد ل 5 متهمين ب«خلية الإسماعيلية الإرهابية»    الأحوال المدنية تواصل خدماتها المتنقلة لتيسير استخراج المستندات للمواطنين    الطب 155 ألف جنيه.. جامعة القاهرة الأهلية تعلن المصروفات الدراسية لعام 2025- 2026    هل للهضم دور في تعزيز صحة العظام؟.. تفاصيل    الكشف على 31 ألف مواطن بالمبادرات الصحية بشمال سيناء خلال 2025    ربيع ياسين: الأهلي اتخذ القرار الصحيح برحيل أحمد عبدالقادر    لاعب الأهلي السابق يكشف عن أمنيته الأخيرة قبل اعتزال الكرة    الشيخ أحمد البهي: لا تكن إمّعة.. كن عبدًا لله ثابتًا على الحق ولو خالفك الناس    هل يجوز إجبار الفتاة على الزواج من شخص معين وهل رفضها عقوق؟.. أمين الفتوى يجيب    حالة الطقس في الإمارات اليوم.. صحو إلى غائم جزئياً    "عدسة تحت الماء وشنطة مليانة حشيش".. مصور شرم الشيخ يتاجر بالمخدرات    الوطني الفلسطيني: المخطط الإسرائيلي بإقامة"المدينة الإنسانية" لا يمت بأي صلة للقيم الإنسانية    لبيد: نتنياهو يسمح بالأوهام حفاظًا على ائتلافه    القديس يعقوب بن زبدي.. أول الشهداء بين الرسل    النسوية الإسلامية.. (الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ): خاتم الأنبياء.. وهجرة الرجال والنساء! "131"    مستوطنون يحرقون بركسا زراعيا في دير دبوان شرق رام الله وسط الضفة    مأساة نص الليل.. غرق سيارة ملاكي في نكلا بالجيزة- صور    إتحاد عمال الجيزة يطلق حوارا مباشرا مع اللجان النقابية لبحث التحديات    أفضل أدعية الفجر.. 10 صيغ لطلب الرزق وصلاح الأحوال    وكالة فارس: الرئيس الإيراني أُصيب في هجوم إسرائيلي استهدف اجتماعا سريا للأمن القومي في 16 يونيو    «دوروا على غيره».. نجم الزمالك السابق يوجّه رسائل نارية لمجلس لبيب بسبب حمدان    للمرة الثانية.. سيدة تضع مولودها داخل سيارة إسعاف بقنا    من أرض الواقع.. «ستوديو إكسترا» يرصد آليات إصلاح وترميم سنترال رمسيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ننشر نص كلمة الامام الأكبر فى افتتاح أعمال ندوة "الإسلام والغرب.. تنوع وتكامل"
نشر في الموجز يوم 22 - 10 - 2018

ألقى الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، رئيس مجلس حكماء المسلمين، اليوم الاثنين، الكلمة الرئيسية في افتتاح أعمال الندوة الدولية "الإسلام والغرب.. تنوعٌ وتكاملٌ" التي ينظمهما الأزهر الشريف بالتعاون مع مجلس حكماء المسلمين، بمركز الأزهر الدولي للمؤتمرات بمدينة نصر.
وأشار فضيلته إلى أن الشرق: أديانًا وحضاراتٍ، ليست له أيَّة مُشكلة مع الغرب، سواء أخذنا الغرب بمفهومِه المسيحي المتمثل في مؤسَّساته الدينيَّة الكبرى، أو بمفهومِه كحضارة علميَّة ماديَّة، وذلك من منطلق تاريخ الحضارات الشرقيَّة ومواقفها الثابتة في احتِرام الدِّين والعِلم أيًّا كان موطنهما وكائنًا من كان هذا العالِم أو المؤمن.
وأوضح شيخ الأزهر أن انفِتاح الأزهر الشريف على كل المؤسَّسات الدينيَّة الكبرى في أوروبا حديثًا، والتجاوبُ الجاد المسؤول من قِبل هذه المؤسَّسات الغربية -أقوى دليل على إمكانيَّة التقارُب بين المجتمعات الإسلاميَّة في الشرق والمجتمعات المسيحيَّة في الغرب، وأنَّ هذا التقارُب حَدَثَ ويُمكِن أنْ يحدُث.
وأكد فضيلة الإمام الأكبر أن مناهج الأزهر بأصالتها وانفتاحها الواعي على الحكمة أنَّى وُجِدَت، هي التي (تصنع العقل) الأزهري المعتدل في تفكيره وسلوكه، والقادر دائمًا على التكيُّف مع العصر وإشكالاته ومعطياته.
وفيما يلي النص الكامل لكلمة فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله والصَّلاة والسَّلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
السادة أعلام المنصة!
الضيوف الأعزاء!
الحفل الكريم!
السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللَّهِ وبركاتُه.
ومَرْحَبًا بِكُم في مصر المحروسة مُلتَقى الحضارات وحاضِنَةِ العلوم والثقافات، ووادي النِّيل وأرضِ الأهرامات وبلد الأزهر الشريف أقدم المعاهد العلميَّة وشيخ الجامعات.. حللتم أهلًا، ونزلتُم سَهْلًا.. طبتُم وطابت رحلتكم وطاب مُقامكم.
وشُكْرًا من الأزهر الشَّريف ومؤسَّساته، لاستجابَتِكُم الكريمة للمُشاركةِ في هذه الندوة الدوليَّة من ندوات الحوار بين الشَّرقِ والغرب، والتي أرجو أنْ تأتيَ ندوةً مُثمرة مُتميِّزة في مناقشةِ أمر العلاقة بين الإسلام والغرب، مناقشةً تتأسَّس على المصارحة والمكاشفة، وتأخذ في الحسبان الظروف القاسيةَ التي تُعاني منها شعوبنا هنا في الشَّرقِ، وتحتاج إلى تفكيرِ الحُكماء وتدبير العُقلاء من أمثالكُم.
السَّيِّداتُ والسَّادَةُ!
فكَّرتُ طويلًا في الكلمة التي ينبغي أن أُسهم بها في ندوتنا هذه، ووجدتُني في حالة تُشبه حالَة المُضطر للحديثِ في موضوعٍ مكرورٍ، فقد قيل فيه كلامٌ كثير، وصَدَرَتْ بيانات وتوصيات لا يُستهان بقَدْرِها في الدَّعوةِ إلى الحوارِ بين الحضارات، وضرورة الالتِقاء على أمرٍ جامعٍ بينها من أجلِ إنقاذ عالَمنا المعاصر من مخاطر الصِّراع والسَّلام المتوتِّر، وحروب الأمس الباردة، وحروب اليوم الملتهبة. ورُغم هذه الجهودِ المشكورة من حكماء الغرب والشرق، إلَّا أنَّ الطريقَ لا يزال وَعْرًا، وأنَّ جهدًا أكبرَ يجب أن يبذل، وقد تأمَّلتُ هذه المفارقة اللامنطقية بين الواقع والمأمول، وبدا لي أنَّ السبب قد يعود إلى وجود عقبات على طريق الحوار، وأنَّ الاشتغال بالتركيز على هذه العقبات: تشخيصًا وعلاجًا رُبَّما كان أجدى وأكثر اختصارًا لهذا المشوار الطويل.. ومن هذا المنظور تأتي كلمتي التي أُسهم بها في هذه الندوة، والتي سأوجزها فيما يشبه الخواطر والتأمُّلاتِ وأحلامَ اليقظة أيضًا.
وأوَّلُ ما أوَدُّ تأكيده -أمام حضراتكم-في هذا الشأن هو اقتناعي بأن الشرق: أديانًا وحضاراتٍ ليست له أيَّة مُشكلة مع الغرب، سواء أخذنا الغرب بمفهومِه المسيحي المتمثل في مؤسَّساته الدينيَّة الكبرى، أو بمفهومِه كحضارة علميَّة ماديَّة، وذلك من منطلق تاريخ الحضارات الشرقيَّة ومواقفها الثابتة في احتِرام الدِّين والعِلم أيًّا كان موطنهما وكائنًا من كان هذا العالِم أو المؤمن..
وما أظنُّ أنَّ هذه القضيَّةَ بحاجةٍ إلى البرهنة والاستدلال، فحضارة الأندلُس في قلبِ أوروبا قديمًا، وانفِتاحُ الأزهر الشريف على كل المؤسَّسات الدينيَّة الكبرى في أوروبا حديثًا، والتجاوبُ الجاد المسؤول من قِبل هذه المؤسَّسات الغربية -أقوى دليل على إمكانيَّة التقارُب بين المجتمعات الإسلاميَّة في الشرق والمجتمعات المسيحيَّة والعلمانيَّة في الغرب، وأنَّ هذا التقارُب حَدَثَ ويُمكِن أنْ يحدُث؛ وليس أمره كما قال الشاعر «كيبلنج»: «الشرق شرق والغرب غرب، وأبدًا لن يلتقيا».
وهنا أتذكَّر بحوثًا حديثة لبعض الغربيِّين المختصِّين بقضية الحوار الإسلامي المسيحي، يستدعون فيها تاريخ النَّمط الأندلسي بثقافاته الثَّلاث: اليهوديَّةِ والمسيحيَّة والإسلاميَّة، للاهتداء بهذا الأنموذج في رسم خارطةٍ لمسار الحوار الجاري حاليًا، وتصميم «إطار نظري وتطبيقي لقواعد هذا الحوار وأغراضه الأساسية»، وبخاصةٍ بعد ما بُذلت جهودٌ غربيَّة مُعاصِرَة جاوبتها جهودٌ شرقيَّة لدفعِ مَسيرة الحوار بين الإسلام والغرب، في مقدمتها: قرارات مَجْمع الفاتيكان الثاني (1962-1965)، وزيارة البابا بولس السادس لبعض الدول العربيَّة وعلى رأسها دولة فلسطين، وإعلانُ الأمم المتحدة تبني مشروعَ تحالُفِ الحضارات عام 2004م، والذي شجَّعَ على عَقْد مُؤتمرات حوار عالميَّة في الغرب والشرق، وكذلك زيارة البابا فرنسيس لمصر (في أبريل الماضي)، ومشاركتهُ في افتِتَاح مُؤتمر الأزهر العالَمي للسَّلام، وتبادل الزيارات بين الأزهر ورئيس أساقفة كانتربري، ومجلس الكنائس العالمي في جنيف والكنيسة البروتِسْتَانتيَّة بألمانيا، وقد شَعَر هؤلاء المختصون بما يَشْعُر به كل مهموم بقضيَّةِ «السَّلام الضَّائع»، من المصاحب والمتاعِب التي تقف حجر عثرة في طريقِ الجهود المبذولة محليًّا ودوليًّا، وتُباعد بينها وبين النتائج المحدودة التي تتمخَّض عنها هذه اللِّقاءات..
ومِمَّا يؤكِّد اقتناعي بأنه لا مشكلة للشرق أو الإسلام مع الغرب واقعُنا الذي نعيشه بحلوه ومُرِّه، وخيره وشَرِّه، مُنْذُ انفتحت أبواب المسلمين على الغرب في القرنيين الماضيين وحتى اليوم؛ فمنذُ ذلك الحين والمسلمون يعتمدون شيئًا غير قليل من حضارة الغرب في حياتهم نظريًّا وعمليًّا، وهذه مدارسنا وجامعاتنا، بل مدارس أطفالنا الأجنبيَّة التي يتحدَّثون فيها –بكلِّ أسف- الإنجليزيَّة والفرنسيَّة والألمانيَّة بأفضلَ مِمَّا يتحدَّثون العربيَّةَ، التي هي لُغة أمهاتهم وآبائهم وأوطانهم. أقول: هذه المؤسَّسات التَّعليميَّة تُلَقِّن أبناءنا من المواد العلميَّة والأدبيَّة كثيرًا مِمَّا يتلقَّنه الطلاب الأوربيون في جامعاتهم الغربية.. وهذه جامعة الأزهر، الجامعةُ الوحيدة التي تعتزُّ بدراسةِ التُّراث الإسلامي جنبًا إلى جنبِ المناهج التعليميَّة الغربيَّة الحديثة في كليات الطِّب والهندسة والصيدلة والعلوم والزراعة وغيرها - هذه الجامعة بها كُلية لتعليم اللُّغات الأجنبيَّة، وتدريسِ آدابها في أقسام علميَّة مختلفة، ويتردَّد في ردهاتها أسماء روَّاد الأدب الغربي بمدارسِه المتنوعة، بل أذهب بعيدًا لأقول «إن أقسام الأدب العربي في جامعاتنا تُدرِّس لطلابها العرب: مسلمين وغيرِ مُسلمين، كلَّ المذاهب النَّقديَّة المعروفة في الغرب، وكذلك أقسام الفلسفة تدرّس طلابها كل مذاهب الفلسفة الغربية.. بل أذهب إلى أبعد من ذلك حين أقول إنَّنِي دَرَست الفلسفة في كلية أصول الدِّين في ستينات القرن الماضي على شيوخ أجِلَّاء.. درسوا في جامعات أوروبا ونالوا شهاداتهم العليا على أيدي أساتذة أوربيين، وقد غرسوا في نفوسنا احترام هؤلاء الأساتذة، وتوقيرَهم والاعترافَ بفضلهم حتى وإن اختلفنا معهم».. وهذه السماحة التي حرص شيوخنا على تأديبنا بها، لم تكن انعكاسًا لما تعلَّموه في أروقة جامعات الغرب بقَدْرِ ما هي انعكاس لفلسفةِ الإسلام في تواصله مع الآخر: تأثرًا وتأثيرًا.. فهذا هو الفيلسوف المسلم «ابن رُشد» الذي تعرفه جامعات الغرب وتعرفُ فضلَه على أوروبا في القرون الوسطى، يؤصِّل في نصٍّ بديعٍ، لا أمَلُّ من التذكير به، في ضرورة النَّظَر العقلي ومشروعية انفِتاح المسلمين على ثقافات الآخرين، وضرورة الاستفادة من جهود السابقين عليهم، في كل العلوم، بما فيها علوم الفلسفة، التي هي أخطر العلوم مساسًا بالعقائد والأديان.. يقول ابن رشد في هذا النص: «يجب علينا إن أَلْفَيْنا لمن تقدَّمنا من الأُمَم السَّالفة نَظرًا في الموجودات (....) أن ننظرَ في الذي قالوه من ذلك، وما أثبتوه في كتبهم: فما كان منها موافقًا للحقِّ قبلناه منهم، وسُررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبَّهنا عليه، وحذَّرنا منه، وعذرناهم».
والذي يقوله «ابن رشد» في هذا النص لا يقوله تجمُّلًا للذات ولا مجاملة للآخر، وإنَّما يكشف فيه عن أصلٍ ثابت من أصول الإسلام في الحث على البحث عن الحقيقة، وشُكْرِ مَن يكتشفها وعُذْرِ مَن يُخفق في اكتشافها، وهذا ما نحفظه عن ظهر قلب عن نبي الإسلام ﷺ من أنَّ المجتهد الذي يصيب الحق له أجران من الله تعالى: أجر مشقَّةِ البحث وأجر اكتشاف الحق. والمجتهدُ الذي لا يصيب الحق في اجتهاده له أجرٌ واحدٌ هو أجر عناء البحث ومكابدتهِ، فالباحث عن الحقيقة، والمؤهل لاكتشافها هو دائمًا في فلسفة الإسلام: إمَّا مشكور وإمَّا معذور، ولا أظن أنَّ معادلة أخرى تبلغ من السَّماحة مع الغير ما تبلغه هذه المعادلة.
ومَنْ يشرفنا منكم –أيُّها السَّادة الضيوف الفُضلاء-بزيارة لكلياتنا الأزهريَّة العريقة في حَيِّ الأزهر القديم يرى معهدًا لتعليم طلابِنا الذين هم شيوخُ المستقبل، اللُّغاتِ الأوربيَّةَ، وإعدادِ المتفوقين منهم للدراسات العُليا في جامعات أوروبا، وهذا المعهد يشترك في إدارته والإشراف عليه المركزُ الثقافي البريطاني، والمركزُ الثقافي الفرنسي، ومعهدُ جوته الألماني، تحت مظلَّة مشيخة الأزهر الشريف..
هذه هي مناهج الأزهر بأصالتها وانفتاحها الواعي على الحكمة أنَّى وُجِدَت، هي التي (تصنع العقل) الأزهري المعتدل في تفكيره وسلوكه، والقادر دائمًا على التكيُّف مع العصر وإشكالاته ومعطياته.
وأمرٌ آخر قد يخفى على كثيرين في أمر العلاقة بين الشرق والغرب؛ هو أنَّ كثيرًا من المظاهر الثقافية والحضارية الأوروبية متغلغلٌ اليوم في عُمق ثقافتنا الشرقية، في شتَّى ميادينها السياسيَّة والتعليميَّة والاجتماعيَّة والفنيَّة، وأن الاختلاف بين الثقافتين يكاد يكون محصورًا في مجال الدِّين والعقيدة وما يرتبط بهما من قيم وتقاليدَ تاريخيَّةٍ وثقافية، لا مفرَّ منها لأي شعب من الشعوب، أو أمة من الأمم تحرص على ثقافتها وتحميها من العُدوان والذوبان والاندثار..
السَّيِّداتُ والسَّادَة!
لعلَّكم تتفقون معي، بعد هذا السَّرد، في أنَّ سؤالًا مشروعًا يفرض نفسه هنا وهو: أين هذا الإسلام المنغلق على نفسه، والمحبوسُ في ماضيه، والذي يُشكِّل أتباعه خطرًا ماحقًا على حضارة الغرب ومنجزاته الكبرى في علوم الكون والإنسان؟! وأين شعب من شعوب المسلمين يملك مصنعًا واحدًا من مصانع أسلحة الدَّمار الشامل، أو مَصْدَرًا واحِدًا من مصادر القُوَّة العنيفة الرَّادِعة ويُمْكِن أن يُقال عنه أنه يرعِب القُوى الدوليَّة، التي تتمتَّع –بكل أسف- بحرية لا سقفَ لها، في أن تقول ما تشاء، وتفعلَ ما تُريد، وتلوِّحَ بعصاها الغليظة لكل من يُعارضها، أو يجرؤ على التفكير في مُراجعتها!!
إنَّ المشكلةَ –فيما أعتقد-وقد أكون مصيبًا وقد لا أكون، تكمُن في هذه القُوَّة العالميَّة التي يملؤها الشعور بالغَطْرَسَةِ وبحَقِّ السيطرة على الآخرين وتسخيرهم لتحقيقِ مصالحها ومنافعها الخاصة، انطلاقًا من الشعور بأنها الحضارة الأرقى والأنقى، وصاحبةُ الحق المطلق في سيادة الشعوب وقيادتها..
وهذه هي عينُ الذَّرائعُ التي تذرَّع بها الاستعمارُ القديم وبرَّر بها انقضاضه على مقدَّرات الشعوب وثرواتها.
وأنا –أيُّها السَّادَة الفُضَلاء!- مِمَّن يؤمنون بتعارُف الثقافات، وتكاملها وتعاونها، تعلَّمتُ ذلك من القرآن الكريم الذي حفظتُ منه منذ الطفولة أنَّ «التعارف» هو قانون العلاقات بين الأمم والشعوب، وذلك في الآية التي يعرفها المسلمون وغيرُ المسلمين في الشرقِ والغرب، وهي قوله تعالى: ▬يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ♂ [الحجرات: 13]، كما تعلَّمتُه في دراستي للتراث العقلي عند المسلمين وتلاقحه مع ثقافات اليونان والهند والفلسفات الدينية في العصر الوسيط.
ولم يكن يخطر بالبال يومًا أنَّ القرنَ العشرين قرنَ التقدُّم الحضاري، والرُّقيِّ الإنساني، وقرنَ حقوق الإنسان، ومواثيقِ السَّلام الدوليَّة.. سوف ينتهي بظهور نظريَّات ومذاهبَ تمهِّد للحروب بين الشعوب وتبرِّر الصِّراع بين الحضارات، وقد قرعتْ أسماعَنا طويلًا نظرية الصراع الطبقي التي ما لبثت أن تهاوتَ وذهبت أدراج الرياح، و «نظريَّةُ نهاية التاريخ»، ونظريَّة «هنتنجتون» في صِراع الحضارات، وهي نظريَّات ترتد أصولها إلى أطروحات عُنصرية خالصة، في مُقدِّمتها: أطروحة ماكس فيبر العالِم السسيولوجي والاقتصادي الألماني (1864-1920م) الذي مضى على رحيله اليوم قرابة قرن كامل من الزمان.. هذا العالِم أسَّس لنظريته بدعوى تقول: إن «مقارنة الحضارة الغربيَّة بغيرها من الحضارات البشريَّة، تُثبتُ تفرُّد الحضارة الغربيَّة بخصائصَ فريدةٍ في نوعها، لا يوجد لها نظيرٌ بين سائر الحضارات الأخرى، وأن خصائصَ الحضارةِ الغربيَّة لم تعرفها أيَّةُ ثقافةٍ إنسانيَّةٍ أخرى خارج ثقافة الغرب»
ثم جاء المُستشرق الشَّهير الإنجليزيِّ الأصل: «برنارد لويس»، ليؤكِّد في كتابه: «الإسلام»، أنه أوَّلُ مَن أطلَق فِكْرَة: [صِدَام الحضارات] عام 1957م، غداة تأميم مصر لقناة السويس بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وتعرُّضِ الشعب المصري لحرب العُدوان الثُّلاثي عام 1956م.. وقد عاد لويس لهذه الفكرة مرَّة أخرى عام 1990م، وهو بِصَدَدِ الحديث عن العالَم العربيِّ والإسلاميِّ ليُؤكِّد من جديدٍ أنَّ أمْرَ الغرب حيال الإسلام هو أمرُ صِدَامِ حضاراتٍ حقيقي وتاريخي، وأنَّ صِدَامَ الغرب لهذا الدِّين بالذَّات ولحضارته من بين سائر الحضارات الأخرى هو –فيما يقول-: «ردُّ فعل على خصمٍ قديم لتراثنا اليهودي والمسيحي»، ثم يقول: «إنَّ صِدامَ الحضارات هو مَظهر مهم للعلاقاتِ الدوليَّة الحديثة».
السَّيِّداتُ والسَّادَة!
أرجو ألَّا يُفهم من كلامي أني أُنحي باللائمة كلِّها على الغرب وحضارته، ففي الشَّرق أيضًا عيوب وسَلبيَّات، أسهَمَت في تأكيدِ ظاهِرَة الخوف من الإسلام التي انتَشَرَت مؤخَّرًا بين جماهير الغرب، ومن أخطرِ هذه العيوب هو هذا الصَّمت المريب عن الإرهاب الذي مَكَّنَ للحركات السياسيَّة المسلَّحة من الرَّبطِ بين الإسلام وبين جرائمها الإرهابيَّة، وإطلاقِ أسماءٍ دينيَّة على مُنظَّماتها، استقطبت بها كثيرًا من الشَّباب والشَّابات الذين غرَّهم هذا المظهر الديني الخادِع.. حتى استَقرَّ في أذهانِ الغالبيَّة من الأوروبيِّين والأمريكان أنَّ العُنْفَ والإسلام توأمان ورضيعا لِبان لا يُفارِقُ أحدهما الآخر إلَّا ريثما يَلتصِق به من جديد.
حتى بات من الصَّعب توضيحُ الحقيقة للغرب والغربيِّين، وأنَّ هذا الدِّين مختطفٌ بالإكراهِ لارتكاب جرائمَ إرهابيَّة بَشِعة على مرأى ومسمع من أهلِه وذويه والمؤمنين به، وأنَّ المسلمين الذين يوصفون بالعُنف والوحشية هم –دون غيرهم-ضحايا هذا «الإرهاب الأسوَد»، وأن تعقُّبَ أسباب الإرهاب، والبحثَ عن عِلَلِه القُصوى ليس محلُّه الإسلامَ ولا الأديانَ السَّماويَّة، أمَّا محلُّه الصَّحيح فهو الأنظمة العالميَّة التي تُتاجر بالأديانِ والقيمِ والأخلاقِ والأعرافِ في أسواقِ السِّلاح والتسليح وسياسات العُنصرية البغيضة والاستعمار الجديد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.