هنأ المرشد المسلمين بعيد الفطر المبارك يوم الجائزة فى ختام عبادة، فعباداتنا دائما تكون شكرا على تمام النعمة وجائزة لإحسان العمل، ونصافحهم بأيدينا وقلوبنا، سائلين الله -عز وجل- ألا يأتى رمضان المقبل إلا وقد مكن الله لدينهم الذى ارتضاه لهم، ومنحهم الحرية فى أوطانهم، والسيادة على أرضهم، والتخلص من وصاية غيرهم، وإعلاء راية الإسلام خفاقة على ديار المسلمين: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ يوسف: 21 قال فى رسالته الاسبوعية ان شهر رمضان يودعنا ونودعه وقلوبنا به متعلقة، وأرواحنا إليه مشدودة، وتتمنى أن تطول الأيام الباقية، وألا تنفد لياليه الأخيرة؛ حتى ننعم بما يتنزل فيها من رحمات، ونزداد بها قربًا من الله، ونفوز بعتق رقابنا من النيران.. بأن ننال مغفرة من الله ورضوانا . اضاف إن شهر رمضان مدرسة عامة، مدة الدراسة فيها شهر، يجدد فيها المسلم والمسلمة إيمانه، ويقوى صلته بربه، فيصير خلقًا آخر، لا يميل إلى الإخلاد إلى الأرض، ويرفرف إلى آفاق الملائكة، ويكتسى بخصائص ثلاث: الربانية، والإنسانية، ونشر الخير ومجاهدة الشر. أما الربانية فتتمثل فى صيامك لله وحده إيمانًا واحتسابًا، وصيامك على هذا الوجه سر بينك وبين مولاك.. وفيه تجرد وإخلاص، وتسامٍ على الضرورات الجسدية، ومن أمسك بزمام نفسه وفطمها عما تهوى فقد قهر أعدى عدو له ألا وهو نفسه التى بين جنبيه؟ (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِى الْمَأْوَى) (النازعات: 40، 41). وبغير إصلاح النفس لا يتغير حال الأمة: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11). اوضح إن الصيام مدرسة للتربية الروحية؛ ولقد كان السلف العظيم يجعلون من رمضان دورة إيمانية للروح الإنسانية ومعهدًا خاصًّا للتربية النفسية، فكانوا يتجردون عن آدميتهم الطينية إلى حين، ويتخففون من مطالبهم المادية التى تكبّل الروح بأغلال ثقال، وتعوق القلب الإنسانى عن التحليق فى آفاق الملأ الأعلى.. فأما نهارهم فصيام وذكر، وأما ليلهم فقيام وتلاوة وفكر، وأما نظرهم وخواطرهم فعبرة وعظة وإلهام.. حديثهم قرآن وخُلُقهم قرآن.. وقد سئلت أم المؤمنين عَائِشَةَ رضى الله عنها عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ". وأما الإنسانية المكتسبة من الصيام، فإنها تكون مع إصلاح النفس والارتقاء بها إلى الربانية، وتحقيق التقوى، التى هى ثمرة الصيام، وأثر ذلك فى إحياء الشعور والوجدان، وتزكية النفس، وتفجير ينبوع الحنان والعاطفة فى أعماقها، ودفعها إلى الجود والبذل، والتوجه بالخير إلى الإنسانية وكذلك كان رسولنا أجود الناس، وكان أجود ما يكون فى رمضان! وبذلك يلتقى الأغنياء والفقراء على مائدة الإنسانية الواحدة. فشهر رمضان شهر التواصل الاجتماعى، وتقديم الخير وبذل المعروف وكل ذلك من عوامل الألفة والمحبة والمودة، وكل ذلك مما تحتاج إليه الأمة فى مثل هذا التغيير الذى يحدث الآن على الساحة العربية والإسلامية. وأما نشر الخير ومجاهدة الشر والباطل فهو الغاية من بعث هذه الأمة (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (البقرة: 110) وما يتدرب عليه فى رمضان علما بالقرآن وعملا بالإحسان هو تطبيق عملى لهذه الغاية وهذا الهدف. قال إن التقوى ثمرة الصيام (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183). وما أمرنا الله بما تعبّدنا إلا من أجل التقوى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 21). بل إن ما فرضه الله من القصاص جعل غايته التقوى: (وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِى الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 179). والتقوى هى امتثال الأوامر واجتناب النواهى، فالمتقون هم الذين يراهم الله حيث أمرهم ولا يقدمون على ما نهاهم عنه، والمتقون هم الذين يعترفون بالحق ويعرفونه ويؤدونه، وينكرون الباطل ويجتنبونه، ويخافون الرب الجليل الذى لا تخفى عليه خافية. المتقون هم الذين يعملون بكتاب الله فيحرمون ما حرّمه ويحلّون ما أحلّه، فهم لا يخونون فى أمانة، ولا يرضون بالذل والإهانة، ولا يعقّون ولا يقطعون، ولا يؤذون جيرانهم، يصلون من قطعهم، ويعطون من حرمهم، ويعفون عمن ظلمهم، الخير عندهم مأمول، والشر من جانبهم مأمون، لا يغتابون ولا يكذبون ولا ينافقون، ولا ينمون ولا يحسدون، ولا يراءون ولا يرابون ولا يقذفون ولا يأمرون بمنكر ولا ينهون عن معروف، بل يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، تلك صفات المتقين حقًّا الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون. ومما أثر عن السلف أن من علامة التقوى أنك ترى لها قوة فى دين، وحزمًا فى لين، وإيمانًا فى يقين، وحرصًا فى علم، وعلمًا فى حلم، وقصدًا فى غنى، وخشوعًا فى عبادة، وتحملًا فى فاقة، وصبرًا فى شدة، وطلبًا فى حلال، ونشاطًا فى هدى، وتحرجًا عن طمع. إن الدين بكل تشريعاته حرَّر نفوس المسلمين من المطامع والأهواء والشهوات، وربط نفوسهم بالله خالق الكون والحياة، وقيد إرادتهم بإرادته وحده، والله هو الحق، وهو عنوان الخير والحب والرحمة، فمن أحبّ الحقّ واستحوذ عليه حب الخير والرحمة، كان متحررًا من كل ما عداها من صفات مذمومة، وهؤلاء يختارهم الله عز وجل بفضله كما يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن لله عبادا اختصهم لقضاء حوائج الناس، حببهم فى الخير وحبب الخير إليهم، هم الآمنون يوم يفزع الناس". وإذا كان لا بد للإنسان من أن تسيطر عليه فكرةٌ، أو نزعة، أو خلق، فالذين استولى عليهم حب الحق خيرٌ وأكرم ممن يستعبدهم الباطل، والذين تشبعت نفوسهم بحب نزعة إنسانية كريمة، تستمد سموها من الله، أكرمُ ممن تستعبدهم نزعة شهوانية يمتدُّ نسبُها إلى الشيطان، والذين يخضعون لله، ويمتثلون أمره ونهيَه أفضلُ وأكمل وأعقل ممن يخضعون للشهوات والأهواء، بل وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن من باع آخرته بدنياه هو أحمق الناس، وإن أحمق منه هو من باع آخرته بدنيا غيره".