من بين كل مشاهد الموجة الأولى لثورة 25 يناير.. مشهد خطير نحتاج إلى تثبيت الكادر عليه، مشهد يوم كان الدكتور عصام شرف بعينيه الدامعتين المتأثرتين بموجة وطنية ثورية. فى هذا المشهد كان شرف فى ميدان التحرير محاطا ببعض من أهل الثورة.. عندما ذهب ليحج للميدان مرة أخيرة.. ويحلف اليمين الدستورية فى الميدان، استمد شرف شرعيته الأولى من الميدان على مرحلتين: المرحلة الأولى زياراته المتكررة للميدان خلال الموجة الأولى للثورة، وكانت المرحلة الثانية خلال زيارته الأخيرة للميدان فور توليه الحكومة.
كلنا نحاول الآن ننسى هذا المشهد.. كلنا نبرئ ميدان التحرير من شرف، وذلك بعد معاناة مع شرف وحكومته وضعفه وتخاذله وفشله فى تحقيق الحد الأدنى من الأمن ومطالب المواطنين عامة والثوار بشكل خاص.
ولكننا يجب أن نتذكر حكومة شرف ونحن على أعتاب حكومة جديدة تحمل اسمًا موحيًا (حكومة إنقاذ وطني).
يجب أن نرسم خارطة طريق لها، بعيدا عن الأسماء المطروحة وخيارات الدكاترة البرادعى وعبد المنعم أبوالفتوح وحسام عيسى، أو حتى بعيدا عن المطلب فى التحرير بإعلان حكومة من قبل الميدان، فى مسألة الأسماء يكفى أن نضع شرطا حاكما لرئيس وأعضاء الحكومة.. وهذا الشرط ببساطة أن يكون جميع أعضائها من خارج صندوق الرئيس المخلوع مبارك، وفى إطار الحديث عن الأسماء.. فإن هناك مأزق متوقعًا وهو تشكيل اعضاء حكومة تحظى بتوافق من القوى السياسية.. ولا يشترط أن يتحقق هذا التوافق بضم كل أطياف السياسيين للحكومة، ولكن من الممكن الاكتفاء بأن تمثل القوى السياسية الرئيسية فى شكل نواب ثلاثة لرئيس الحكومة.. وأن يتولى معظم الحقائب الوزارية خبراء يحظون بالثقة والكفاءة.. وبذلك تجمع الحكومة القادمة بين كفاءة حكومة (التكنوقراط)، وحنكة الحكومات السياسية.. ويضمن هذا المزج ألا تتورط الحكومة فى الجمع بين وزراء من اليسار وآخرين من اليمين مثل حكومة شرف.. فنحن لا نريد وزيرًا من الوفد وآخر من التجمع ورابعًا مقنتعًا بتطبيق الاقتصاد الإسلامى.
وهذه الحكومة يجب أن تكون من حضن التحرير، وليس شرطا أن تكون كل الحكومة من قلب ميدان التحرير الآن.. فقد احتضن ميدان التحرير منذ الموجة الأولى للثورة شخصيات تجمع بين الوطنية والكفاءة، ويكفى أن يكون نصف الحكومة من المنتمين لحضن التحرير. وأن يكون النصف الآخر من الخبراء الأكفاء المؤمنين بمبادئ ثورة 25 يناير.. فليس كل ثائر أو ثورى يصلح رئيس حكومة أو حتى وزيرا، وإذا كان من البديهى أن يحكم الثوار بأنفسهم، فإن هذه البديهية لا تترجم حرفيا اختيار حكومة بالكامل من ميدان التحرير، ولكن أن يأتى مجموعة من الوزراء من الميدان، وأن يملك الثوار سلطة أن تنفذ الحكومة سياسات ومطالب الثوار. وفرض حكومة إنقاذ من الميدان لا يجب أن يترجم أن يستبعد الثوار كفاءات وطنية لمجرد أنها لم تكن موجودة أو لم تسطع إثبات وجودها فى الميدان.
وعلى الرغم من أهمية الشخصية التى ستقود حكومة الإنقاذ.. ورغم أهمية وزراء هذه الحكومة. رغم هذا وذاك، فإن أهم شرط لنحاج هذه الحكومة يكمن فى تحديد الأهداف والمهام قبل تحديد الأشخاص.
فقد كان أخطر خطايا حكومة شرف هو التحول من حكومة تسيير أعمال إلى حكومة دائمة.. راح شرف يتحدث عن مشروعات قومية.. ويهرب من فشله فى تحقيق استقرار الحاضر بأحلام المستقبل، ولأن المرء على دين رئيسه، فإن كل رجال شرف تسابقوا فى تقليده. مشروعات اسكان للفقراء ب10 مليارات جنيه.. ومشروعات نهضة علمية من نوع ممر التنمية وجامعة زويل.. والحديث عن خطط متوسطة المدى وأخرى بعيدة المدى، وكل يوم ينشغل الوزراء بمشروعات قوانين تفتح أبواب الجدل.
فى إطار هذا الازدحام وقعت المهام المحددة لحكومات تسيير لأعمال.
ولذلك يجب أن نحدد كشعب قائمة المهام الأساسية لحكومة الإنقاذ الوطنى.
ولأننا لانخترع العجلة، فإن مهام هذه الحكومات تنحصر فى الحفاظ على الأمن (فى حالتنا استعادة الأمن). وتهيئة العجلة للتحول الديقمراطى ببناء المؤسسات الرئيسية.
والحفاظ على لقمة العيش. وأقصد ضمان تدفق المواد التموينية والسلع الاستراتيجية. لا نريد حكومة تغرقنا مرة أخرى فى أحلام أو طموحات أكبر من اللحظة الحرجة.. لا نريد حكومة تعد بما لا تستطيع.
وعندما يكون المسئول أو رئيس الحكومة لديه رصيد من الثقة.. فإن قدرته على الحركة تصبح أكبر.. يستطيع رئيس الحكومة أن يصارح الشعب بحدود وقدرات الاقتصاد الآن.. ويستطيع أن يطالب ببعض التضحيات للعبور من المأزق، وأن يجرى إصلاحا فى الموازنة العامة يحقق شعار العدالة الاجتماعية..
فى إطار المهام المحددة والتكليفات الواضحة.. فإن حكومة الإنقاذ الوطنى يجب أن تعلن فى أول لقاء لها بالشعب جدول زمنيًا لاستعادة الأمن ومواجهة البلطجة والقبض على البلطجية الذين أطلقهم ذيول حكم مبارك على المواطنين.
وبالطبع يجب أن تحقق الحكومة أول إنجازتها بتقديم هؤلاء لمحاكمات عادلة أمام القضاء العادى.
ويتطلب الأمر أن تدرك الحكومة أن عمرها قصير.. ومسألة العمر هذه عنصر حاكم.. فالحكومة قصيرة العمر لا يجب أن تفكر إلا فى مشروعات قصيرة العمر. نحن نريد من الحكومة ألا تبدد طاقتها فى مشروعات طويلة الأجل أو حتى متوسطة الأجل. بل أن تركز على الخطط والمشروعات قصيرة الأجل.. ومن ناحية أخري.. فإن هذه الحكومة لا تملك حق توريط مصر فى تكلفة مشروعات طويلة المدى أو مشروعات استراتيجية.
وربما يكون نموذج مدينة زويل هو خير مثال لهذه القضية. فالترحيب والتقدير للدكتور زويل ومشروعه العلمى واجب على أى حكومة وطنية.. ولكن حكومة الإنقاذ الوطنى لا يجب أن تورط البرلمان المنتخب القادم فى مشروع زويل أو مشروع ممر التنمية.. ولا يجب أن تضخ الموازنة المصرية المنهكة أموالا فى مثل هذه المشروعات.. لأن الأولوية يجب أن تكون للمشروعات الملحة العاجلة.
وفى غياب برلمان منتخب يجب أن تبتعد الحكومة عن طرح مشروعات قوانين تصدر بمرسوم عسكرى. وخاصة المشروعات التى تمثل انقلابا فى أحد الملفات المهمة. وقد كانت تلك النقطة من أخطاء تعاملنا مع حكومة شرف. ولذلك يجب أن نحدد: هل من صلاحيات الحكومة الجديدة إجراء تغييرات تشريعية بعيدا عن برلمان منتخب.. هل من حق حكومة الإنقاذ الوطنى أن تغير قانون الضرائب لفرض ضرائب تصاعدية.. أو هل تعد قانون تأمينات ومعاشات جديدًا يحقق مزيدا من الضمانات للمواطن؟ ربما تكون إجاباتك عن هذه الأسئلة بنعم. ولكن لو فكرت قليلا فقد تتأكد أن الإجابة بلا هى الحل الأمثل.. لأن حكومة الإنقاذ يجب أن تتجنب الجدل والخلاف السياسى، وتسعى للعمل لتحقيق الأهداف ذات التوافق والأولوية. ونحن نستطيع أن نحقق مطلب العدالة الاجتماعية بإجراء تعديلات فى الموازنة أو إجراء تعديلات فى بعض مواد القوانين لوقف نزيف المال العام.
نحن على شفا هاوية ونحتاج إلى حكومة إنقاذ تجذبنا بسياساتها بعيدا عن منطقة الخطر.. الحكومة الجديدة محملة بالأعباء والمسئوليات ولكنها لا تملك بالتأكيد رفاهية الوقوع فى أخطاء