كتاب أمريكى جديد يسأل: لماذا يتقدمون خطوة للأمام وعشر خطوات للخلف؟ وصفت الباحثة الأمريكية «اليسون بارجتر» الإخوان بأنهم صاروا مثل فيل ضخم ثقيل الحركة.. جامد فى مكانه.. غير قادر على اتخاذ خطوة يمكن أن تغير من واقعه.. أى تغيير فيه لا يمكن أن يتم إلا بشق الأنفس.. وعلى امتداد فترة زمنية طويلة يتغير فيها العالم بأسرع مما يستوعب.. أو يتحرك فيل الإخوان.. كان هذا الوصف فى كتابها : «الإخوان المسلمون: عبء التقاليد» الذى طرح الأسبوع الماضى فى الأسواق الأمريكية، محاولا قراءة حركة تفرض واقعها على الساحة السياسية الجديدة التى خلقها الربيع العربي.. بعد أن ظلت على مدى قرن كامل، تحاول فرض هذا الواقع من تحت الأرض.
تقول الباحثة الأمريكية إن الإخوان فى مصر يحملون ثقلا خاصا، على الرغم من المكاسب التى حققها الإخوان فى دول عربية أخري، مثل إخوان الأردن الذين حققوا قفزات واسعة فى المجال السياسي.. أو حتى حماس التى تولت السلطة فى غزة.. يظل الفرع المصرى للإخوان المسلمين هو الفرع الذى ينظر إليه على أنه رأس الإخوان فى العالم كله.
والواقع أن الإخوان فى مصر أثبتوا بأكثر من طريقة أنهم يستحقون تلك المكانة بالفعل.. استطاعوا التكيف مع كل تلك العواصف القمعية التى أطلقتها ضدهم الأجهزة الأمنية الرسمية على اختلاف أنظمة الحكم.. وعلى امتداد عدة عقود.. وعلى الرغم من حظرهم، إلا أنهم نجحوا فى الحفاظ على قاعدة شعبية جماهيرية تساندهم عبر مصر كلها.. وحتى مع عدم السماح لهم بتأسيس حزب سياسى من قبل، إلا أنهم نجحوا أيضا فى خلق وجود ملموس لهم على الساحة السياسية إلى حد دخولهم مجلس الشعب.
لكن على الرغم من كل هذه الإنجازات.. إلا أن الإخوان فى مصر يبدون وكأنهم قد وصلوا إلى طريق مسدود.. كما لو كانوا قد تجمدوا فى أماكنهم وصاروا يواجهون عائقا يصعب تجاوزه.. صار الأمر يبدو وكأن الإخوان فى مصر يتقدمون خطوة للأمام ويرجعون عشر خطوات للخلف.. توحى مواقفهم بالتخبط والارتباك وعدم القدرة على اتخاذ قرار حاسم.. ويعجزون عن اتخاذ موقف واضح وصريح تجاه العديد من القضايا.. أولها، وليس آخرها ولا أبسطها، هو إلى أى مدى يحتاج الإخوان إلى الإصلاح من الداخل؟
يبدو الإخوان وكأنهم صاروا عالقين بين إدراكهم لضرورة إحداث تغيير فى أنفسهم لمواجهة تحديات العالم المتغير المحيط بهم.. وحاجتهم للحفاظ على المبادئ التى تأسست عليها حركتهم.. وهكذا، ظهر الإخوان فى الفترة الأخيرة، وقد تبنوا مظهرا إصلاحيا، يواكب تطورات العصر، ويسعى بشدة إلى أن يقدم نفسه على أنه أهم تيار إسلامى تقدمى فى العالم كله.. لكن، على الرغم من ذلك، إلا أنهم ظلوا رافضين لأن يتحركوا بعيدا أكثر عن المبادئ الأساسية التى أرساها مؤسس الجماعة، الشيخ حسن البنا فى العشرينيات.
يظهر هذا التناقض بشكل صارخ فى مواقف الإخوان الغامضة، ورفضهم الثابت للإعلان عن مواقفهم وسياساتهم فى القضايا المثيرة للجدل.. والملفات الساخنة المطروحة على الساحة.. وهو ما يؤدى إلى توجيه اتهامات للإخوان، سواء كانت اتهامات حقيقية أو باطلة، من قلب مصر ومن خارجها، بأنهم مجرد تيار يلعب لعبة سياسية لخدمة مصالحه الخاصة.. ومن هنا، تبدو الرسائل المتضاربة التى تخرج من قلب مكتب الإرشاد وأعضاء الهيئة العليا للجماعة وكأن أية مكاسب يحققها الإخوان، هى مكاسب يمحوها الإخوان أنفسهم بتصرفاتهم الخاطئة.
والواقع أن أحد الأسباب الرئيسية التى جعلت الإخوان عاجزين عن صياغة استراتيجية متماسكة، هو وضعهم السرى الذى أجبرهم على العمل دائما فى ظروف شديدة الصعوبة.. يمكن القول أيضا إن انقسام الجماعة من قلبها.. بين المحافظين من جهة، وهؤلاء الذين يريدون اقتحام الحياة السياسية أكثر من جهة أخري.. أو ما كان يصفه المراقبون بأنه صراع الأجيال فى قلب الجماعة.. كان أمرا عمق من إحساس الناس بأن الإخوان يفتقدون القدرة على تحديد مسارهم .
لكن.. كل ذلك أيضا لا يكفى لتفسير ذلك الارتباك الذى يعانى منه الإخوان حاليا.. فالمشكلة أعمق بكثير من مجرد اختلاف فى الرأى بين رءوس الجماعة.. إن ذلك الارتباك والتخبط والغموض الذى يميز مواقف الإخوان حاليا هو نتيجة لرغبة الإخوان فى أن يلعبوا كل الأدوار فى نفس الوقت.. وسعيهم لأن يكونوا كل شيء لكل شخص.. لقد سعى الإخوان كحركة، فى كل مراحلهم، إلى أن يجتذبوا إليهم أكبر قدر ممكن من الأتباع على اختلافهم، وتنافرهم، بهدف الوقوف فى وجه النظام القائم أيا كان.. ومن هنا كان شعارهم الجامع الشامل.. والمطاط:«الإسلام هو الحل».
كانت هذه القاعدة الشعبية العريضة دائما أحد العناصر الأساسية لقوة الإخوان.. لكنها كانت أيضا، أحد القيود التى حدت من قدرة الإخوان على الانطلاق بعيدا عن مبادئ مؤسسهم الرئيسية.. والواقع أن كثيرا من مؤيدى الحركة والمتعاطفين معها، يدعمونها تحديدا لأنهم يعتبرونها حارسة التقاليد، والقائمة على المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية.. مثلا.. البعض الآخر ينظرون إلى الإخوان على أنها جماعة تمثل الإسلام نفسه.. وهى صورة، حرص الإخوان على ترويجها على مدى السنين.. بل إن ذلك المزج.. والدمج ما بين الدين والسياسة، هو ما منح الإخوان تفردهم وصبغتهم الأساسية.. مما جعل المدى الذى يمكن أن يصل إليه الإخوان فى إصلاح أنفسهم، محدوداً دائما بحاجتهم إلى أن يظلوا ملتصقين طيلة الوقت، بجذورهم، وتقاليدهم.
على الرغم من ذلك، صارت حاجة الإخوان ملحة لكى يثبتوا أنه من الممكن اعتبارهم شركاء سياسيين يمكن الوثوق فيهم.. وأنهم لا يريدون قلب المائدة، ولا المناداة بقيام ثورة أخري.. بل حرص الإخوان على التلميح بأنهم يريدون ممن سيحكم مصر فى الفترة المقبلة، أيا من كان، أن يحكمها بطريقة إسلامية لائقة.. فى إشارة أنهم سيرغبون فى أن يلعبوا دور الحاكم المعنوى للبلاد.
كانت تلك الحاجة، أو الضغط، لأن يقوم الإخوان بإصلاح أنفسهم.. وحاجتهم للتمسك بتقاليدهم.. حاضرة منذ بدايات تأسيس الجماعة.. كان مؤسسها حسن البنا يصارع لخلق نوع من التوازن بين الدخول فى قلب مؤسسات الدولة وإرضاء أتباعه فى نفس الوقت.. هؤلاء الأتباع الذين كانوا ينتظرون منه أن تتخذ الجماعة موقفا أكثر تشددا فى العديد من الأمور.. وظلت تلك النقطة تشكل هاجسا وضغطا للإخوان طيلة تاريخهم، لم يتمكنوا من حله طيلة قرن كامل من وجودهم.. وعلى الرغم من نجاح فروع أخرى من الجماعة، مثل الإخوان فى سوريا، من تحريك أنفسهم، ووضع برامج تبعدهم عن الجذور الأولى للجماعة، إلا أن الإخوان فى مصر فشلوا، مرارا وتكرارا، على الرغم من كل المحاولات المضنية التى بذلوها، فى أن يتحرروا من عبء تراثهم.. وتاريخهم.. وتقاليدهم.
كانت هذه القيود سببا فى أن يعجز الإخوان عن احتواء عدد من أهم المفكرين المعاصرين الذين كان من الممكن أن يحدثوا تغييرا فى مسار الحركة.. وأوضح مثال لذلك من خارج مصر كان مثال الشيخ راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة الإسلامية التى اكتسحت الانتخابات فى تونس بعد الثورة، واعلنت للعالم موقفها التقدمى من قضايا مثل السياحة وبيع الخمور وفرض الحجاب والأقليات الدينية.. وهى نفس القضايا التى عجز الإخوان فى مصر عن إعلان موقف واضح وصريح منها.. لقد قلب الغنوشى مسار الإسلام السياسى فى القرن العشرين.. ولكى يحقق ذلك، كان عليه أن يبتعد عن السير وراء الإخوان.. بعد أن وجد أن القيود والقوانين التى تفرضها الجماعة على نفسها سبباً فى إعاقة تقدمها أكثر من اللازم.
وجد الغنوشى أنه لا مجال فى الإخوان لشخص آخر غير المرشد فى قرار الإخوان.. والذى على ما يبدو، لابد أن يكون مصريا حتى لو لم يوجد نص قانون صريح يشير إلى ذلك.. وكان إصرار الإخوان على مبدأ السمع والطاعة.. والتدرج فى المناصب، سببا فى أن يشعر كل أصحاب الأفكار المستقلة والحرة بأنه لا بديل أمامهم إلا أن يتركوا الجماعة لكى تخرج أفكارهم للنور.
وهكذا صار واضحا، أنه على الرغم من ترويج الإخوان لمرونتهم فى التعامل مع الآخرين.. إلا أنهم لا يظهرون هذه المرونة فى تعاملهم مع أنفسهم.. فى قلبهم جمود أكثر من اللازم عندما يمس الأمر أنظمتهم ولوائحهم الداخلية.. وقوانينهم.
كيف يمكنك إذن أن تصلح العالم.. إذا كنت عاجزا عن إصلاح نفسك أولا؟