لا أحب اليونيفورم منذ أن وعيت على ظهر الدنيا...من زى المدرسة الذى كنت أحتال على عدم ارتدائه بالمرة أو ارتداء ملابس عادية تشبهه حسب ظروف المدرسة والرقابة المفروضة على الملابس...حتى البدلة الاسموكنج التى يطلبون منا الذهاب بها إلى حفلات الزفاف والمناسبات الرسمية الأخري. أكره اليونيفورم حتى لو كان فوق جسد طبيب.. حياتى وصحتى بيديه...وحين أرى طبيبا أتذكر دائما عبد المنعم ابراهيم فى فيلم «اسماعيل يس فى سراية المجانين» فى دور المجنون الذى انتحل صفة مدير المستشفى وراح يلقى الحكم والنصائح على زينات صدقي، ثم خرج عليها من وراء المكتب بدون بنطلون وهجم عليها محاولا أن يلتهم أذنيها!
أكره اليونيفورم حتى لو كان على جسد ممرضة أو مضيفة طيران رشيقة. وأكرهه أكثر حين يكون نظيفا وأنيقا وغالى الثمن فوق جسد ضابط كبير يخيف الناس برتبته أو رجل دين يخيف الناس بهالة الورع التى تضفيها عليه العباءة والقلنسوة...وأكرهه أكثر وأكثر حين يكون بسيطًا مستهلكا وممزقا فوق جسد عامل بسيط مضطر إلى ارتدائه حتى يمكن تمييزه عن السادة الذين يرتدون ما يحلو لهم.
بينى وبين أصحاب اليونيفورم عداوة غير مفهومة أعتقد أننى ورثتها مع الجينات تمنعنى من الذهاب إلى الأطباء وبيوت العبادة وكادت تتسبب لى فى مشاكل جمة أيام الجندية.
لكننى أحببت زى الجيش المصرى أيام الثورة...حين كان يشعرنا بالأمان أحيانا...وكنت أرتعب منه أكثر من زى الشرطة حين كان بعض ضباط الجيش يسيئون معاملتنا على مشارف ميدان التحرير.
وأكثر يوم أحببت فيه الزى العسكرى كان يوم التصويت على استفتاء التعديلات الدستورية فى مارس الماضي.
فى ذلك اليوم ذهبت للتصويت فى مدرسة الخديو اسماعيل بحى السيدة زينب - وهى المدرسة التى قضيت فيها مرحلة تعليمى الثانوى - وهناك وجدت المشير طنطاوى بلحمه ودمه وزيه العسكرى فى فناء المدرسة يتحدث إلى عدد كبير من المواطنين ببساطة وخفة دم محببة. كان يجيب عن كل الأسئلة التى تشغل بال الناس بتلقائية ووضوح: قال يومها إن أحدا لم ولن يهرب بالأموال وإنهم جمدوا كل الفلوس المنهوبة...وقال إن من صنع الثورة هو الشعب وليس السلطة ولا أى من ممثلى النظام البائد... وعلق مازحا مع مواطن أشيب الشعر: «ماهو أنت من النظام البائد برضه»...وقال إنهم رفضوا إطلاق النار على المتظاهرين، كما رفضوا التدخل فى موقعة الجمل حتى لا يصيبوا أى مواطن مصرى من الجانبين، سجلت اللقاء كله على الموبايل وكثيرا ما عرضته على زوجتى وأصدقائى وأنا أشير إلى تواضع واستقامة المشير.. وحتى عندما كان يذكر أحدهم بعض الممارسات العسكرية القمعية والكارهة للثورة كنت أستثنى المشير منها وأؤكد أنه مختلف.
أمس الأول قرأت ما قيل إنه شهادة المشير فى محاكمة مبارك، وبالأمس شاهدت على الفيسبوك «الكليب» الذى يتجول فيه سيادته مرتديا بدلة مدنية عادية فى شوارع وسط البلد، على بعد خطوات من ميدان التحرير... ولكننى شعرت بغصة فى القلب حين قارنت بين مشاعر الفرح والتفاؤل التى كانت تعم الناس - وانا منهم - يومها... وبين مشاعر الخوف والشك التى تنتابهم اليوم.
أين ذهبت «يد» الجيش والشعب «الواحدة»؟ وكيف انقلبت الأوضاع إلى هذه الدرجة؟ وعلى من يقع الخطأ؟ أسئلة مؤلمة وإجاباتها أكثر إيلاما.