الذين نالوا من هيبة المؤسسة العسكرية باغتيال السادات يتربصون لها في أكتوبر القادم سامحوني إذا قدمت لكم سلة من خبز الحزن والألم والخوف من مجهول أسود مظلم. كان بودي أن أغير قائمة الطعام.. فأضع علي المائدة فطائر محشوة بنشوة الثورة.. وعصير فاكهة مضروبا في خلاط التحرير.. وقطع جاتوه عجنها الشعب بدموع فرحته بإسقاط نظام فاسد.. فاشي.. شوه كل شيء حولنا. كان بودي أن أغير موسيقي الناي المحرضة علي الشجن، التي غطت غرفة الطعام بجو رمادي مقبض كئيب. لكن.. من أين أشتري خبز الفرح وكل مخابز مصر لا تبيع إلا خبز الأحزان؟. لقد هبطت علينا الثورة بجرعات مذهلة من التفاؤل.. فأطلقنا الرصاص ابتهاجاً.. ورقصنا في الشوارع سعادة.. وبعد طول ليل خرج الفجر مضيئاً.. مشرقاً.. لكنه.. كان فجراً قصيراً.. خاطفا.. ساد الظلام بعده من جديد.. في حالة من الكسوف السياسي شعرنا معها بأن شمس الثورة قد توارت خلفها واختفت. عنف.. بلطجة.. بطالة.. شغب.. تمرد.. توتر.. قلق.. سطو.. ضباب.. استفزاز.. اعتصام.. فشل.. يأس.. غضب.. تربص.. كلمات سلبية.. تتفجر أنانية.. انتهت بنا إلي شحنات من المتاعب الجماعية النفسية. قررت مثل غيري تناول حبة في اليوم.. كي أحاول أن أنام.. كي ألغي بطريقة كيميائية حواسي الخمس.. كي أختم علي أبواب ذاكرتي بالشمع الأحمر.. كي أهرب من هجمات طيور الفوضي الشرسة التي تهاجمنا بمناقيرها الحديدية القاتلة المجرمة.. لكنني.. أدركت أن حبة الفاليوم لن تنقذ بلادي مما ينتظرها.. وأن ما نحن فيه يحتاج إلي يقظة مضاعفة.. فالفاليوم وغيرها من الأقراص المنومة والمهدئة والمطمئنة، هي رشوة للعقل كي يغفو في وقت نحتاج فيه إلي شدة الانتباه واليقظة. إن هناك شعورا غالبا لدي مساحات متزايدة من حكام ومحكومين، بأن هناك مؤامرة خفية تنفذ خطوة خطوة لتفجير الفوضي في الخريف، الذي يطرق ابوابنا بقوة هذه الأيام.. وتتستر الفوضي وراء طهارة الثورة.. وحيوية شبابها.. وكأننا أمام قصة الذئب الذي تخفي في زي الجدة الطيبة العجوز- في قصة ذات الرداء الأحمر -ليلتهم طفلة بريئة تمثل في حالتنا الثورة. لقد كان الثوار مشغولين بإسقاط النظام في وقت هاجمت فيه جماعات مجهولة أقسام الشرطة والسجون والمحاكم وإدارات الأحوال الجنائية وراحت تحرقها دون أن تنسي إخراج مساجينها وتهريب بعضهم خارج البلاد في نفس الليلة -كما حدث مع مسجوني حماس وحزب الله- وبشهادة عمر سليمان فإنه قد قبض علي أفراد ينتمون للتنظيم الدولي للإخوان كانوا يعبثون بأمن الوطن مستغلين حالة الكراهية للشرطة، ورغبة الثوار في الإجهاز عليها. وبعد انهيار الشرطة الجنائية جاء الدور علي الشرطة السياسية.. ومن جديد جري استغلال الثأر البايت لفئات الشعب المختلفة من جهاز أمن الدولة.. فكان الهجوم الجماعي علي مقارها، محفزاً لنشوة الانتقام الجماعي للخروج عن قبضتها.. لكن.. لو كان أمن الدولة جهازا متعسفا في دس انفه في المهن والأنشطة المختلفة والحياة الخاصة، فإنه كان في الوقت نفسه بمثابة ذاكرة للإجرام السياسي.. حيث ملفات الجماعات الإرهابية.. وأنشطة السفارات الأجنبية.. وأموال التمويلات الخارجية.. وكان فقدان هذه الذاكرة سبباً في فشل الأمن في التفرقة بين الثوري والعميل.. بين الوطني والبلطجي.. بين من يتظاهر سعياً لمطالب.. ومن يخرب وصولاً لفوضي. في الوقت الذي نجد فيه أصحاب مصالح يكسبون الكثير من غياب الأمن الجنائي نجد غيرهم يتربصون بالأمن السياسي.. ووصلت الحال بجماعات بعينها أن استأجرت بيوتاً أمام مقار أمن الدولة كي تراقبها.. وتحجمها.. وتحرض عليها.. انقلبت الآية .. وأصبح الضابط متهماً والمتهم ضابطاً. إن جهاز الأمن السياسي ضروري في الدول الديمقراطية قبل الدول الديكتاتورية.. وإن كانت الدول الديمقراطية تضع قواعد وضوابط قانونية صارمة تضمن عدم التجاوزات التي عانينا منها.. وفجرت كل كراهيتنا. وجاء الدور علي الأمن المركزي.. كانت قواته قد خرجت سليمة من الأحداث.. يسهل تضميد جراحها.. وهو ما نقل مهامها من دعم الأمن السياسي إلي مساندة الأمن الجنائي.. وهو دور كنا في حاجة إليه لتقليص حجم الخارجين علي القانون والقبض عليهم في أماكن عشوائية يصعب اقتحامها.. لكن.. ذلك لم يرض قوي التآمر.. فجري ما جري فيما يعرف بموقعة البالون.. وتكرر ذلك فيما بعد فيما يعرف بموقعة الالتراس.. ومهما كانت الأسباب الظاهرية والاتهامات المتبادلة فإن الهدف الخفي قد تحقق.. وهو تكسيح الأمن كلما وقف علي قدميه. ومع محاولات الشرطة المضنية استرداد عافيتها زاد الحمل علي كتف المجلس العسكري.. فعليه حماية الجبهة الداخلية قبل الجبهات الخارجية.. وتوزعت جهوده بين تنفيذ برنامج سياسي لانتقال السلطة لا يرضي الجميع، وبين حماية أمن الوطن فكان آخر حائط صد أمام قوي الفوضي.. وهي القوي التي تجهز للصدام معه.. متسترة مرة أخري وراء مطالب مختلفة.. ومختلقة.. وتحددت ساعة الصفر في يوم 6 أكتوبر. إن يوم 6 أكتوبر من أيام الانتصار القليلة اليتيمة في تاريخنا.. لكن.. شاءت قوي الإرهاب أن تلطخه باغتيال أنور السادات.. وشاءت قوي الفوضي أن تمحيه من الوجود بأعمال حرق وضرب وتخريب متوقعة.. وكان الشعار.. مادامت الشرطة سقطت يوم عيدها فليحدث الشيء نفسه مع القوات المسلحة. والحقيقة أن الهدف لا يقتصر علي الهجوم علي المعسكرات والمحطات العسكرية واستفزاز الجنود كي يطلقوا النار، ويصبح بين الشعب والجيش دم، وإنما الهدف هو إسقاط الدولة نفسها كي تصبح جثة هامدة تتسلمها قوة نشطة جاهزة تحلم بحكمها منذ سنوات طوال.. وهو ما يمد في أمد الفوضي شهورا.. في الخريف الطارق للأبواب.. ويجعل الثمن فادحاً.. مادياً وبشرياً ونفسياً. ويبدو من المشهد العام الواضح للأعمي أن كل عناصر الفوضي جاهزة للأحداث القادمة.. شباب وجد نفسه في التظاهر يسهل توجيه مشاعره الوطنية بشعارات ثورية.. ترسانة من الأسلحة سرقت من الشرطة وهربت من ليبيا وتسللت عبر سيناء.. جيوش من البلطجية مستعدون للقتال بأرخص الأسعار.. وتمويل أجنبي جاهز للصرف بكرم زائد لم نشهده من قبل. إن داخل العدد تقارير رسمية تحقق فيها الآن نيابة الأموال العامة، تؤكد أن ما قدمته الولاياتالمتحدة من أموال في آخر 4 أشهر يفوق ما قدمته خلال الست سنوات الماضية.. وتكاد لا توجد منظمة أهلية واحدة لم تسيطر عليها بالدعم المالي.. والأخطر أنها لعبت في شمال سيناء والصعيد والنوبة.. وهي مناطق حبلي ببذور الفتن والانشقاق. لقد ضبط شيك بثمانية ملايين دولار مرسل من المعونة الأمريكية إلي سيدة في اسوان بهدف إنفاقه علي عناصر تمزيق النوبة وفصلها عن مصر بدعوي تميزها الثقافي، واستغلت متاعب النوبيين مع أراضيهم القديمة التي فقدوها ببناء السد العالي في التحريض علي العنف والشغب. ورفضت وزارة التعاون الدولي توقيع بروتوكول لدعم حقوق الإنسان في مصر قيمته 60 مليون دولار، بسبب بند يفرض تمويل الأقليات بما قيمته 4 ملايين يورو سنويا. ولا يتوقف العبث عند الحدود الأوروبية والأمريكية وإنما يمتد إلي دولة مثل قطر تبدو حسب وصف رئيس وزراء إثيوبيا مليس زيناوي مثل طفل يلهو بمسدسين أحدهما محشو بالمال والآخر محشو بالإعلام.. فقد حولت مؤسسة عيد بن محمد آل ثان 181 مليون جنيه إلي جماعة أنصار السنة.. خصصت منها 30 مليون جنيه للصرف علي كفالة اليتيم ولم تذكر أين ذهبت الملايين الباقية؟. مادام المسلمون يقبضون فلماذا لا يقلدهم المسيحيون.. إن جمعية كاريتاس وهي بالمناسبة جمعية عريقة ونشطة ومؤثرة في الصعيد حصلت مؤخرا علي أكثر من 155 مليون جنيه. ولو كانت جهات تقصي الحقائق في حكومة عصام شرف قد توصلت إلي هذه المعلومات فإن من المؤكد أن هناك ملايين أخري تسللت إلي البلاد في حقائب سلمت باليد.. وقد سمعت من وزير مهم خدم بعد الثورة أن أموالا خليجية وصلت إلي 500 مليون جنيه عرفت طريقها إلي شخصية مؤثرة وجماعة أكثر تأثيرا.. لكن.. لا أحد اقام الدليل.. فالأمن السياسي المسئول عن توفير الدليل في حالة غياب. وما يزيد النار تأججا حالات العبث بالقانون.. فهناك جمعيات حقوقية تخرج لسانها لقانون الجمعيات المشهرة وتمد يدها طلباً للمال.. والمفروض فيها أنها أول من تحترم القانون. بل إن أكبر جمعية أهلية -وهي الإخوان المسلمون -ليس لها شرعية.. فهي وإن كانت موجودة ومؤثرة بالفعل إلا أنها لا تزال محظورة بالقانون. وقانون البلطجة الذي صدر في أعقاب الثورة لم نجد مجرما واحدا يخشاه.. بل تحدوه بسرقاتهم في عز النهار.. جرأة وسخرية. ويمنع قانون الأحزاب قيام حزب علي اساس ديني.. بينما يعرف اقل الناس اهتماما بالسياسة.. أن أحزابا إخوانية وسلفية وجهادية خرجت بالقانون ثم خرقته.. ولو كانت لجنة شئون الأحزاب في حاجة إلي دليل فلتقرأ تصريحات قياداتها في الصحف ولتشاهدها مسجلة بالصوت والصورة علي اليوتيوب.. ومن لا يري من الغربال أعمي ولو كان في الحكم. ولو كنت ممن يتجنبون توجيه لوم أو نقد للإعلام، فإنني بحكم صلاتي بصناعه ورموزه ونجومه، أدعوهم لحوار هادئ يطفئ من نيران الفتنة التي قد نزيدها اشتعالاً بحسن نية.. بحثا عن سبق.. أو رغبة في تميز.. فنحن أول من سيكون في مرمي ضرب الرصاص وزجاجات المولوتوف. واللوم الذي يجب توجيهه إلي المجلس العسكري، فالفراغ الذي حدث بعد سقوط النظام السابق لم يجد من يسده.. فدخلت قوي الخارج قبل الداخل في سباق محموم لاحتلال اقصي ما يمكن من مساحات الفراغ.. وبما يعطيها الحق في مكان مميز لها في السلطة القادمة. وهناك مطالب للقوي الوطنية يجب دراستها بجدية لنزع فتيل الفوضي وسحب مبرر النزول للتحرير.. منها تطهير مناصب قيادية في مؤسسات مختلفة لايزال من يشغلها يدين بالولاء لما سبق.. بجانب عزل القيادات العليا في تشكيلات الحزب الوطني.. والبرلمان.. والمجالس المحلية.. يضاف إلي ذلك البدء فورا في إجراءات يبدو منها رغبة واضحة في تحقيق العدالة الاجتماعية.. أول مطالب الثورة، وربما يكون من المفيد لتجنب متاعب الانتخابات وتكلفتها التي تزيد علي المليار جنيه أن يكون البرلمان القادم مؤقتا لمدة محدودة يضع خلالها الدستور ويشرف علي الانتخابات الرئاسية.. يكون البرلمان القادم بالاختيار.. بقواعد ترضاها القوي المختلفة.. وقد سمعت من قيادة إخوانية بارزة اقتراحا بأن يكون البرلمان بالتوافق علي أن توضع قواعد التوافق.. وهي أفكار تجنب الجميع الصدام.. وتخفف من فرص الفوضي. والأهم أن ذلك كله يجنبنا فراغ السلطة الذي يسعي إليه البعض، كي يعيد تشكيل السلطة علي مزاجه وتوجهاته.. وهو ما يحفزه للفوضي التي ربما تكون أيضا أسهل طريق لتقسيم البلاد.. وشرذمتها.. ولو كانت السودان سابقة فإن مصر ستكون لاحقة.