ألقى عبد الفتاح العواري، العميد الأسبق لكلية أصول الدين بالقاهرة، خطبة الجمعة اليوم بالجامع الأزهر ودار موضوعها حول "هجرة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم ". وأوضح د. عبد الفتاح، أن هجرة النبي المصطفىصلى الله عليه وسلم، التي تحتفل الأمة وتحتفي بذكراها، رحلة عظيمة أعطت للحياة قيمة ومنحت للإنسان كرامته وأرست للحضارة قواعدها ومكانتها؛ فلم تكن هجرته صلى الله عليه وسلم مجرد انتقال من مكان إلى مكان آخر، بل كانت هجرته نموذجا راقيا برهن على ما جاء به الإسلام من معطيات حضارية لم تعرف الإنسانية قبلها حضارة تمت بمن فيها إلى هذا الحد الذي استشعرت فيه الإنسانية معاني الرحمة والأخوة والحب والمودة، فلقد أُخرج النبي صلى الله عليه وسلم من وطنه وتآمر عليه الملأ واتُخذت القرارات وسجل القرآن ذلك في حقه، فقال تعالى "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ". وأضاف، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من مكة بعد أن تنكرت لدعوته قريش كلها وأصبح البلد الحرام بيئه تأبى الإسلام وتضطهد أهله فأذن الله له، وحدد له دار هجرته، تلك البيئة الصالحة لانطلاقةٍ دعويةٍ تعم رحمتها أرجاء العالمين، لأن صاحب هذه الهجرة هو رحمة الله للعالمين. وتابع د.العواري، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من مكة وهي بلده وموطنه ووطنه الغالي، فما توارت ديارها إلا والنبي يقف ناظرا إليها تتحرك عنده مشاعر الوطنية في بلد نشأ فيه وتربى فيه وترعرع فيه، بل وتنزلت على قلبه أولى قطرات الوحي الإلهي في غار حراء فأشرقت الأرض بالضياء، إنه وطن ما أغلاه على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أشد تعلق روح رسول اللهصلى الله عليه وسلم، به لكنها الإرادة الإلهية التي اختارت له مكانا آخر لينال من دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم يسعد أهله به وتنتشر دعوته في ربوع العالمين. وقال خطيب الجامع الأزهر: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة مودعا إياها قائلا: والله إنك لخير بلاد الله، وإنك لأحب بلاد الله إلى الله وإليَّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت"، يضرب المصطفى صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في الوطنية وكيف تتعلق النفوس المؤمنة بوطنها، فأعظم مقوم من مقومات الحضارة التي يتعلمها المسلمون في ذكرى الهجرة المباركة أن تتعلق أرواحهم وقلوبهم بأوطانهم فلا يفرطون فيها قيد أنملة بل يبذلون كل غالٍ ونفيس من أجل حمايتها، وترقيتها وعمارتها تأسيا بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. واسترسل قائلًا: إن من بين مقومات الحضارة التي تعنيها الهجرة النبوية المباركة أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما دخل المدينةالمنورة -بلده الجديد ودار هجرته- أول ما فعل وصل الخلق بالخالق وعرّف العباد طريق المعرفة بالله، فأنشأ المسجد ليربط عباد الله بربهم فينالون رضوانه ويمدهم بمدد من عنده ما داموا متعلقين به مستمسكين بدينه مؤدين مناسكه وشعائره قال تعالى "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ"، فلا قيمة لحضارة مادية تغفل عن عبادة الله الواحد، فكان لا بد من وصل العباد برب العباد لتعطي الهجرة رُقيا في الحضارة وإخلاصا لله تعالى. وأضاف، أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين القبائل المتناحرة التي أجهضتها العداوات والمِحن والحقد والكراهية فجمع النفوس على كلمه سواء تحت راية الإسلام، فآخى بين المهاجرين والأنصار بعد أن قضى على عداوات الأوس والخزرج، وشاءت إرادة الله أن يسميهم بالأنصار فقال تعالى "وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ "، فحري بأمة الإسلام وهي تعيش هذه الذكرى العطرة أن تأخذ من معطياتها ما يرفع قدرها بين الأمم ويحقق لها حضارة راقية تعيش في ظلالها وتحقق الأمن والسلام والطمأنينه بين أفراد بني البشر. وبيّن خطيب الجامع الأزهر، أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو رسول الإنسانية ورحمة الله للعالمين لم يعنى بالأخوة الإيمانية فحسب، بل كانت نظرته أشمل لتتحقق بها الأخوة الإنسانية بعد أن فرغ من تحقيق الأخوة الإيمانية، منح النبي صلى الله عليه وسلم، اليهود على اختلاف أجناسهم وأعراقهم وطوائفهم حق المواطنة، لنجد اليهود يعيشون مع المسلمين مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، كما منحهم النبي صلى الله عليه وسلم حرية الاعتقاد وحافظ على دور عبادتهم ليلتئم الوضع في المجتمع وتكون دولة الإسلام حارسة لمواطنيها فكان لهم ما للمسلمين من حقوق وعليهم ما على المسلمين من واجبات. وختم د. العواري قائلا: حري بأمة الاسلام إن أرادت أن تستعيد مجدها وحضارتها وقيمها أن تأخذ قبسا من هجر النبي صلى الله عليه وسلم لتحقق به مقومات الحضارة، فحينها يرمقها الناس جميعا بأعين الإجلال والتوفيق.