بوابة حديدية تنبعث منها أصوات أطفال، يقضون الوقت في اللهو واللعب، يحاولن إبعاد كل ما يشعرون به من ألم عن مخيلتهم، وما إن تفتح البوابة تتركز أنظارهن عليها، بأعمارهن المختلفة وأشكالهن التي تجمع جمال براءة الأطفال، يتلهفن لزيارة البعض لهن، للفضفضة عن حالهم، آملاً بالمساعدة للخروج من بين هذه الجدران. أطفال من الإناث في عمر الطفولة والصبا، لعبت الظروف بهن ، فبينهم من فقد آبائهن وأمهاتهن، سواء كانا على قيد الحياة أو ورات أجسادهم الثري، هكذا حال البنات في مؤسسة الفتايات بالعجوزة.
أول ما تطأ قدميك داخل المؤسسة، يخطف أنظارك الأدراج التي تتحرك عليها الفتايات جريًا صعودًا ونزولًا، وأصواتهن التي تتصاعد تارة ضحكًا وأخرى بكاءً لوقوع إحداهن أو اختلافها مع صديقتها، فضلا عن نظارت التطلع المزدوجة بالفرحة والحيرة لوجود وجوه أخرى بالعقار المكون من ثلاث طوابق، تتابعك حتى تصل إلى مكتب المسؤولة عن الفتايات، لمعرفة الكثير عنهن وعن احتياجاتهن.
لتروي صفاء حلمي-اسم مستعار- المسؤوله عن المؤسسة، والابتسامة تنبعث من وجهها، أن الفتايات بالمؤسسة ينقسم يومهن بين المدرسة للأطفال الصغار والجامعة للكبار، بالإضافة إلى المشاركة في الأنشطة المختلفة، وفي كل خطوة للفتايات تسبقهن خطوات الأخصائيات الإجتماعيات المتوليات الإهتمام بهن، موضحةً أن أعمارهن تتراوح بين 5 أعوام و23 عامًا، تصل أعدادهن إلى 46 فتاة، مشيرةً إلى أن بعضهن تواجدن في المؤسسة بعد وفاة أحد والديهن أو كليهما، والبعض الآخر نتيجة التفكك الأسرى.
وعن حالتهن النفسية تقول المسؤولة بنبرة يملؤها الثقة، أن المؤسسة تحاول أن تقوم بدور الأسرة، مضيفة أن الأنشطة تأتي بمثابة تعويض عن ما يعانين من حالة نفسية سيئة، وهو ما يتنافى تمامًا مع حال بعض الفتيات اللائي تحدثنا معهن، لاسيما وأن إحدهن ترجو من الرحمن ليل نهار الخروج من بين هذه الجدران المسلسلة بالأقفال.
وعن احتياجات الفتيات والتبرع، أشارت المسؤولة، إلى أن التبرع للفتايات يأتي تحت مسمى الجمعية عبر شخص متولى هذه المهمة، ومن خلاله يحصل المتبرع على إيصال مختوم بختم المؤسسة بقيمة التبرع، متابعةً أن التبرعات العينية أو المادية لا تحمل أسم أى من الفتايات حتى لا تتسبب في حساسية فيما بينهن.
واستطردت أن أكثر احتياجات الفتايات تكون من الاستعمالات الشخصية، كأداوات النظافة من الصابون والشامبو والكريمات.. وغيرها، أما احتياجات فتايات الجامعة فكانت مختلفة، لاسيما وأن المؤسسة تساعدهن في الارتباط، فأوضحت المسؤولة أن المؤسسة يعرض عليها أشخاص يرغبوا في الزواج من فتايات يتيمات لكسب الثواب من خلالهن، الأمر الذي تتحرى عنه الجمعية قبل أن تسلم إحدى فتاياتها إلى أحدهم.
ولم تكتفي "الفجر" بكلام المسؤولين واختارت أن تقضي يوما مع بنات المؤسسة لتحاكي يومهن ولتعرف على كيفية قضاء أوقاتهن.
في صوت واحد حاولت الفتايات، أن يحكين أنهن يستقيظن يوميًا في السادسة صباحًا ويذهبن للمدرسة التي تقطن في ذات مكان المؤسسة، ثم يعودن لتناول الطعام، ثم مذاكرة دروسهن وقضاء باقي أوقاتهن في الأنشطة.
ويختلف يوم الخميس عند الفتايات، فهو اليوم المسموح لهن فيه بالسهر لأن اليوم الذي يليه إجازة من المدرسة، ويقضي الفتايات اليوم أمام شاشات التلفاز في العنابر التي تسع لعشر بنات.
ومن بين الحكايات اقتنصت الفتايات بعض من الوقت للحديث عن معانتهن التي أودت بهن للعيش في مؤسسة لأسر بديلة، لتروي دموع "شروق" مأستها بالرغم من الابتسامة المصطنعة الظاهرة على وجها طوال الوقت، خوفًا من المسؤولين بالمؤسسة، فتحدق في سقف الغرفة الذي تزينه ذكرياتها الأليمة وتكسوه خوفها منذ أن جاءت للمؤسسة، راغبة بالحديث طوال الوقت فتتلفت يمنها وييسرها: "أمي رمتني في الشارع بعد ما ضربتني وقطعت نفسي علشان جوزها مش عاوزني بعد ما قعدت في شقة الأسمرات، وجابوني لهنا".
وتكمل "شروق" بصوت خانق بالدموع: "عشت طول عمري في العشوائيات في الدويقة ومعرفش غير الفقر وكنت راضية وفرحانة، لحد ما روحنا الأسمرات أنا وأمي وجوزها واختي من الأم، وبعد كده جوزها قالها لازم أروح لأبويا وأبويا متجوز واحدة تانية مش عاوزني، ورموني في النهاية في الشارع، استكترت أمي عليه أفرح وأعيش معها في مكان نظيف واختارت حياتها واختارتلي حياة رافضه أعيشها".
الطفلة ذات العشر سنوات، والتي تركت دارستها بالصف الرابع الابتدائي لتبدأ من جديد، ترجوا من الرحمن أن تربى بعيدًا عن الدار، فهي تعي أن المجتمع يرفض هؤلاء الفتيات: "بستنى كل جمعة علشان خالتي تزورني فهي اللي من أهلي بتحن عليه وحاولت تاخدني أعيش معها لكن أمي رفضت وكأنها متسلطة عليه تقتل فرحتي، ومن ساعة ما جيت الدار ولا عبرتني ولا افتكرت ان لها بنت".
وعن أوقاتها داخل المؤسسة، ترى أن الحياة باتت مجرد وقت وسوف تمر، فطفولتها دفنت مع مجيئها للمؤسسه، وأحلامها رغم بساطتها تبخرت: "مفيش حياه خلاص كله راح، أصعب حاجة تحس أن أمك وأبوك رافضينك ومحدش هيشيل همك بعضه، وبالرغم من أن في بنات هنا حنينةعليه بس في النهاية كل واحد عنده أزمته بيفضل يفكر فيها فالليل بيمر علينا كالجهيم نفضل نفكر في ذكريات قهرتنا".
على جانب آخر، أتكائت "شيماء" على أحد الجدران لتروي معاناتها بعيون شاردة، فلا أحد يصدق أن الفتاة الجميلة التي لم تتجاوز 14 عامًا، قطعت المسافة من محافظة الشرقية إلى مؤسسة الفتايات، بعدما لفقت لها أحد السيدات قضية سرقة وحكم عليها بخمس سنوات لرفضها الزواج من نجلها.
"شيماء" والديها على قيد الحياة ويعشون بين نوعين من الألم الأول بسبب مرضهما، والثاني بسبب عدم استطاعتهم رؤية نجلتهم التي سيقبض عليها فور ذهابها لمنزلها، وستسجن بالأحداث.
لم تكن معاناة الفتاة الوحيدة القضية التي لم تترتكب فيها جرمًا أو بعدها عن والديها، بل عانت من زوجة أخيها التي لفظتها ورفضت العيش معها، وعانت من الذهاب لعمتها وترك المنزل في حال وجود زوجها، لينتهي بها المطاف إلى المؤسسة.
وبصوت تقطعه الدموع، تقول الفتاة: "أمى وأبويا وحشوني.. عاوزة أروحلهم وأسيب المكان هنا.. نفسي أقعد جمبهم في مرضهم ولو روحت هتحبس".
وقبل خطوات محررتا "الفجر" للخروج من المؤسسة، سبقتها أيدى الفتايات المتشبثات بهن لمعاودة الزيارة والتحدث إليهن من جديد.