ملابس عتيقه تكسوها طبقة من الغبار، و"طاقية" تتوارى ملامحه خلفها يضعها فوق رأسه، للاختباء من أشعة الشمس الحارقة، ممسكًا بيده "شيكارة" ورقية يظل يملؤها بحبات الأحجار الصغيرة، حاملا إياها على أكتافه المنحنية، يراوده ذلك الكابوس المريع الذي اصطدم به عندما ذهب إلى التأمينات، عقب أن أحضر كافة الأوراق المطلوبة منه للحصول على المعاش، لتنهار كل آماله وطموحاته ويجد نفسه مجبرًا على العمل في مصنع "البودرة" من جديد، وكأن الراحة الذي يتمناها منذ سبعون عامًا حلمًا صعب المنال. "جابر السيد".. ذو الخمسة وسبعون عامًا، عامل باليومية، يعمل في "مصنع البودرة والجبس" بمنطقة مصر القديمة، منذ نعومة أظافره، حتى هرم جسده النحيف، دون ان يشكو حاله يومًا، بالرغم من أنه فقد عينه اليمنى، والأخرى بحاجة لعملية جراحية، فضلا عن تركيب سبع شرائح في قدمه اليسرى، إلا أن يظل يعمل في مهنته الشاقة، منذ الصباح الباكر حتى غروب الشمس، قائلاً: " اتعودت على الشقى من عمر 5 سنين، بصحى بعد أذان الفجر، أجري على لقمة العيش، وبعمل كل جهدي، وفي الأخر باخد يومية (40 )جنيه، يعملوا ايه في الزمن ده، وأنا معرفش اشتغل غير أعبي أو أشيل بوردة وحجر، على اكتافي، وراضي بالعيشة".
بملامح يملأها الشجن، يضيف "السيد": "عندي بنت اسمها آية في الثانوية العامة لسه، وأهو بجري عليها ونفسي اعلمها وتاخد أعلى الشهادات، وابن كبير ومتجوز وعنده أطفال، ولكن للأسف عاوزني اصرف عليه، وبياخد مني فلوس، وأهو لولا الفلوس اللي أهل الله بيسعدني بيها مع ال(40) جنيه مش هقدر أكل ولا أعيش أنا وأسرتي، ده حتى العلاج الواحد بيستخسر يجيبه علشان مصاريف البيت، وأهو محتاج عملية أشيل الميه اللي على عيني، وسيبها على الله".
لم يجد الراجل السبعيني، طريقًا أمامه دون أن يسلكه، لكي يحصل على معاش تكافل، يساعده في إيجاد قوت يومه، محاولات كثيرة قام بها على أمل إيجاد من يمد إليه يد العون، إلا أن جميعها باءت بالفشل، وقادته إلى طريق العمل الشاق الذي بات جسده لم يتحمله، فيجد نفسه مجبرًا على العودة للبحث عن طريق آخر بديل فيجده ينتهي بذات العمل، معلقًا: "نفسي في معاش تكافل أعرف أصرف به على أسرتي، وارتاح بس ولو يوم بدلا من البهدلة اللي أنا فيها ليل نهار، ولا اني أفضل مستني حد يحس بحالي، خاصة أن الحال بقى صعب والدنيا كلها ماشية بالفلوس والنفس نفسه بقينا نتدفعله فلوس".
وبنبرة صوته المهزوم، يقول "السيد"، بعد أن أخذ نفس عميق وهو يمسح جبهته من عفرة "الشكاير"، أن رغم صعوبة مهنته، وتابعياتها، لاسيما وأن الأتربة المتصاعدة من "البودرة" كل دقيقة تصيبه بعديد من الأمراض هو وزملائه، إلا أنه غير مؤمن عليهم، حين تعرض أحد منهم لإصابة عمل، مطالبًا بإدراجهم على قوائم التأمين الصحي، مثلهم مثل جميع العمال في مصانع مصر. الفيديو من هنا