لم أتعلم الحقد يوماً.. وما طابت عيني أبداً لما في يد أحد.. بل كنت أشعر أني أمتلك الدنيا بما فيها. حين نلتف أنا واخوتي حول قطع الجبن القديمة.. وأقران الفول الأخضر وكِسرات الخبز الجاف.. وضحكاتنا تملأ الجدران ونحن نتراشق بقشرات الفول الأخضر.. لتمتلئ البطون سعادة تغني عن امتلائها بالطعام.. وكنت أفرح حين تسطع الشمس لتجفف جلبابي الوحيد.. ودائماً ما تظل أطرافه لينة.. ليكمل قصة جفافه علي جسدي... وكنت أفرح بالعيد لأنه إيذان بقدوم جلباب جديد.. تقطعه والدتي من السوق الكبير.. وتتفنن في اختيار قماشته الثقيلة حتي لا تهزمه رعونة الصغر.. ومراتع اللعب.. فيبلي قبل أن يبلي العام.. لكن ومع كل هذا.. ورغم وجود أغنياء حولنا.. وهم أسياد القرية وحاكميها. لم أشعر أبداً بما في أيديهم من ثراء.. ذلك لأنهم كانوا يأكلون مما نأكل.. ويشربون مما نشرب. ربما يزيد طعامهم وفرة. وثيابهم أناقة بحكم غناهم المعتدل وما حباهم الله به من نعم.. وحبانا نحن معهم بنعمة التعفف.. وربما أشركونا من طعامهم وذبائحهم من حين لآخر.. فنطعم اللحم. ونشرب المرق.. وكانت مدارسنا واحدة ومناهجنا واحدة.. يجلس عن يميني بن سيد القرية.. وعن يساري بن خادمهم.. وبعد أن دار الزمان دورته.. وطويت الأعوام.. اذا بصورة جديدة للغني الفاحش في مصر.. وصورة أخري للفقر المدقع.. ولا وسط بينهما.. فبينما تخبر إحداهن زوجها عن تذاكر الطائرة لقضاء العطلة الأسبوعية.. تعتصر الأخرى البائعين لتوفر من ثمن الطماطم ما يكمل شراء الزيت.. وبينما أعلم صغيري كيف يهرول ليحظي بمقعد في فصله المكون من اربع وتسعين طفلاً .. تصل الشكوي الي مدير مدرسة اللغات.. لأن المكيف أصاب ابنته بالزكام.. ولم تراعي المشرفة ذلك... لم يعد هناك وسط.. ولو اتسع المقام لأوريتكم صوراً لمفارقات تشق القلب.. بين أناس يشعرون بالملل من لون السيارة.. وآخرين يقنعون أطفالهم ان الموز يصيبهم بالحساسية.. وقد أسمع همس القارئ حين يقول ان الناس درجات وهذا ما أحكمه رب الأرض والسماوات.. لكن ما ينذر بالخطر. وما جعلني أكتب هو اختفاء كل الطبقات لتقتصر علي طبقتين فقط.. رفاهية الحياة.. وشُح العيش.. وكلتا الطبقتين تحددان درجة العلم والصحة والمسكن والمال.. لقد أعجبني جداً فكرة الوزير في خفض السلع في أرض المعارض.. وآلمني جداً تصويرهم وهم يتدافعون الي أكياس الأرز كما يتدافعون إلى الحجر الأسود.. أقول هذا وأنا أعلم أن تربيتي في القرية جعلتني عفيف النفس.. مترعاً بالإيمان كمعظم المصريين الشرفاء ان لم أقل جميعهم.. لكن أكتوي حزناً حين أرقب نظرات أطفالي إلى الألعاب المعلقة بالمحلات.. والفواكه المرصوصة وانا أجرهم بعيداً.. وأري الزوجة الأصيلة تتجاهل إبداء رأيها في حذاء بعد أن رأت ثمنه القاسي يخيم عليه وكأنه يحذرها أن تقترب.. أمور تدعوا للحذر.. فلن تحميكم المدن المغلقة من جحافل الجياع إذا انفرط عقد الأخلاق من شدة الحاجة.. وتمزق الآباء وجعاً علي وجع أبنائهم والدواء قد اشتعل ثمنه.. أخرجوا زكاتكم الي العائزين المعدمين ولا تكتفوا بالجمعيات الخيرية.. انظروا من عليائكم الي البسطاء والمحتاجين.. ستجدونهم أغنياء في صورتهم ليس بالمال وانما بالتعفف.. ستجدونهم وقد أحاطتهم ابتسامات الرضا حتي وان ظلت معيشتهم تحت الصفر